(( من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه ))
شرح حديث ((مَنْ قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غُفِرَ لهُ ما تقدَّمَ من ذنبه))
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فإنَّ مِن نِعَم الله تبارك وتعالى على عباده توفيقه لهم لاستثمار مواسم الطاعات والخيرات والبركات، وإنَّ من هذه المواسم الجليلة العظيمة قيام ليلة القدر في شهر رمضان المبارك، فشهر رمضان شهر مبارك كلُّه، وهو مليء بالخيرات والبركات العظيمات التي تعود على العباد بالخير الكثير والأجر الكبير؛ لذا يجب أن يُستثمَر هذا الشهر وتلك الليلة المباركة حق الاستثمار وبعناية جليلة وأهمية كبيرة.
حيث إنَّ شهر رمضان المبارك هو شهر القيام والصيام وشهر تلاوة القرآن وتدارُسه، وشهر العتق والغفران، وشهر الصَّدَقات والإحسان، وهو شهرٌ تُفتَح فيه أبواب الجنَّات، وتُضاعَف فيه الحسنات، وتُقال فيه العَثَرات، شهر تُجاب فيه الدعوات، وتُرفَع فيه الدرجات، وتُغفَر فيه السيئات، شهر رمضان المبارك تُفتَح فيه أبواب الجنات – نسأل الله العليَّ الأعلى أن يجعلنا من أهلها ووالدينا – وتُغلَّق فيه أبواب الجحيم، وتُغلُّ فيه مَرَدة الشياطين، ولقد سُمِّيت سورة في القرآن الكريم بسورة القَدْر، والتي فيها إخبار عن ليلة مباركة هي من أفضل وأعظم الليالي عند الله تبارك وتعالى، اختارها الله تعالى من دون الليالي ليُنْزِل فيها كتابه وهو القرآن الكريم الذي هو خير ما أُنْزِل على البشريَّة جمعاء، وهي ليلةٌ مباركةٌ من خير الليالي، وهي خيرٌ من ألْفِ شهر عبادة وأعمال صالحات، فمن حُرِم خيرها فقد حُرِم، والمُوفَّق مَنْ وُفِّق لقيامها، والقيام بواجبها وحقِّها، قال الله تعالى: ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ * سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ ﴾ [القدر: 1 – 5].
ولقد أخبر نبيُّنا محمد صلى الله تعالى عليه وسلم أنَّ مَنْ قام ليلة القدر إيمانًا واحتِسابًا، يُغفَر له ما تقدَّم من ذنوبه؛ ففي الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((مَن قامَ ليلةَ القَدْرِ، إيمانًا واحتِسابًا، غُفِرَ لهُ ما تقدَّمَ من ذنبِه))؛ «أخرجه البخاري (1901)، ومسلم (760)».
وفي رواية: ((مَن يَقُمْ لَيْلَةَ القَدْرِ، إيمانًا واحْتِسابًا، غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِهِ))؛ «أخرجه البخاري (35)، ومسلم (760)».
وفي هذا الحديث المبارك يُخبرنا نبيُّنا محمد صلى الله عليه وسلم أنَّ من الأسباب الموجبة لمغفرة الذنوب قيام ليلة القَدْر المباركة، والتي هي خيرٌ من ألف شهر، وأنَّ مَن أحيا هذه اللَّيلةَ المبارَكةَ بالصَّلاةِ والركوع والسجود، والذكر والدعاء، وتلاوة القرآن الكريم وتدارُسه، إيمانًا واحتسابًا لله تبارك وتعالى غُفِر له ما تقدَّم من ذَنْبِه.
وفي هذا الحديث دلالةٌ على فضل ليلة القدر المباركة ومكانتها وفضل قيامها، وكذلك بِشارةٌ عظيمةٌ مِن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم لِمَن وُفِّق لإحياء ليلة القدر المباركة، بمغفرة ذنبه، وعلوِّ منزلته وقدره عند ربِّه جلَّ وعلا.
ومعنى «إيمانًا واحتسابًا»؛ أي: تصديقًا بفضل هذه الليلة المباركة، وفضل ومنزلة العمل والاجتهاد فيها، وابتغاءً لوجْه الله تبارك وتعالى في عبادته وطاعته، محتسبًا لجزيل الأجر والثواب المترتِّب على قيام ليلة القدر، وهذه من صفات أهل الإيمان بالله جل وعلا المخلصين الصادقين.
قال الإمام البغوي: «قوله: ((احتِسابًا))؛ أي: طلبًا لوجه الله تعالى وثوابه».
وقال المباركفوري: «قال الخطابي: “احتِسابًا”؛ أي: نية وعزيمة…»؛ «مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح، المباركفوري، (6/ 404)».
وعن أنس رضي الله تعالى عنه قال: «العمل في ليلة القدر والصدقة والصلاة والزكاة أفضلُ من ألف شهر»؛ «الدر المنثور، السيوطي، (6/370)».
وإنَّ من فضائل ليلة القدر المباركة:
1- أنها ليلة أنزل الله تعالى فيها القرآن الكريم، قال الله تعالى: ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ﴾ [القدر: 1].
قال الطبري: أي: إنا أنزلنا هذا القرآن جملةً واحدةً إلى السماء الدنيا في ليلة القَدْر، وهي ليلة الحُكْم التي يقضي الله تعالى فيها قضاء السنة؛ وهو مصدر من قولهم: قَدَرَ الله عليَّ هذا الأمر، فهو يَقْدُر قَدْرًا.
وقال ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله تعالى عنه وَغَيْرُهُ: أَنْزَلَ اللَّهُ الْقُرْآنَ جُمْلَةً وَاحِدَةً مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ إِلَى بَيْتِ العِزَّة مِنَ السَّمَاءِ الدُّنْيَا، ثُمَّ نَزَلَ مُفَصَّلًا بِحَسْبِ الْوَقَائِعِ فِي ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
2- وأنها ليلة مباركة كما وصفها ربُّنا جلَّ وعلا في قوله تعالى: ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ ﴾ [الدخان: 3].
وهي ليلة يُقدَّر فيها ما يكون في العام من الآجال والأرزاق والمقادير القدرية؛ لقوله تعالى: ﴿ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ﴾ [الدخان: 4].
3- وأنَّها فُضِّلت العبادة فيها عن غيرها من الليالي، كما قال الله تعالى: ﴿ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ ﴾ [القدر: 3]، قال الإمام القرطبي في تفسيره لقوله تعالى: ﴿ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ ﴾؛ أي: بَيَّنَ فَضْلَهَا وَعِظَمَها، وَفَضِيلَةُ الزَّمَانِ إِنَّمَا تَكُونُ بِكَثْرَةِ مَا يَقَعُ فِيهِ مِنَ الْفَضَائِلِ، وَفِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ يُقَسَّمُ الْخَيْرُ الْكَثِيرُ الَّذِي لَا يُوجَدُ مِثْلُهُ فِي أَلْفِ شَهْرٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وقيل: إنَّ العمل في تلك الليلة خيرٌ من العمل في ألف شهر ليس فيها تلك الليلة.
قال الإمام القرطبي: وَقَالَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: أَي الْعَمَلُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْعَمَلِ فِي أَلْفِ شَهْرٍ لَيْسَ فِيهَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ.
وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ لَا تَكُونُ فِيهِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ.
4- وأنَّ الملائكة تنزَّل فيها إلى الأرض بالخير والبركة والرحمة والمغفرة؛ لقوله تعالى: ﴿ تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ ﴾ [القدر: 4].
أي: تهبط الملائكة من كلِّ سماء، وينزلون إلى الأرض، ويؤمنون على دعاء من يدعو.
قال الإمام القرطبي: ﴿ تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ ﴾؛ أَيْ: تَهْبِطُ مِنْ كُلِّ سَمَاءٍ، وَمِنْ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى، وَمَسْكَن جِبْرِيلَ عَلَى وَسَطِهَا، فَيَنْزِلُونَ إِلَى الْأَرْضِ وَيُؤَمِّنُونَ عَلَى دُعَاءِ النَّاسِ، إِلَى وَقْتِ طُلُوعِ الْفَجْرِ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ ﴾.
﴿ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ ﴾؛ أَيْ: جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ.
وقوله تعالى: ﴿ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ ﴾؛ أي: يُقضَى فيها ويُقدَّر ما يكون في السنة إلى مثلها.
قال الإمام الطبري في تفسير قوله تعالى: ﴿ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ ﴾؛ أي: أُمِرَ بِكُلِّ أَمْرٍ قَدَّرَهُ اللَّهُ تعالى وَقَضَاهُ فِي تِلْكَ السَّنَةِ إِلَى قَابِلٍ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ؛ كقوله تعالى: ﴿ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ ﴾ [الرعد: 11]؛ أَيْ: بِأَمْرِ اللَّهِ جل وعلا.
وقال الإمام الطبري عن قتادة، في قوله تعالى: ﴿ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ ﴾، قال: يُقضَى فيها ما يكون في السنة إلى مثلها.
5- وهي ليلة خالية من الشَّرِّ والأذى، وتكثُر فيها العبادة والطاعة وأعمال الخير والبِرِّ، وتكثُر فيها السلامة من العذاب، ولا يخلص الشيطان فيها إلى ما كان يخلص في غيرها، فهي سلام كُلُّها، قال الله تعالى: ﴿ سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ ﴾ [القدر: 5].
قال الإمام الطبري: أي: سلام ليلة القدر من الشرِّ كله من أوَّلِها إلى طلوع الفجر من ليلتها.
وَقَالَ قَتَادَةُ وَابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: ﴿ سَلامٌ هِيَ ﴾؛ يَعْنِي: هِيَ خَيْرٌ كُلُّهَا، لَيْسَ فِيهَا شَرٌّ إِلَى مَطْلَعِ الْفَجْرِ.
وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: هُوَ تَسْلِيمُ الْمَلَائِكَةِ لَيْلَةَ الْقَدْرِ عَلَى أَهْلِ الْمَسَاجِدِ مِنْ حَيْثُ تَغِيبُ الشَّمْسُ إِلَى أَنْ يَطْلُعَ الْفَجْرُ.
وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: الْمَلَائِكَةُ يَنْزِلُونَ فِيهِ كُلَّمَا لَقوا مُؤْمِنًا أَوْ مُؤْمِنَةً سَلَّمُوا عَلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ سبحانه حَتَّى يَطْلُعَ الْفَجْرُ.
وقال السعدي: ﴿ سَلَامٌ هِيَ ﴾؛ أي: سالمة من كلِّ آفةٍ وشَرٍّ؛ وذلك لكثرة خيرها، ﴿ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ ﴾؛ أي: مبتدؤها من غروب الشمس ومنتهاها طلوع الفجر.
وبعد بيان فضل ليلة القدر، نقف مع بعض المسائل المتعلِّقة بليلة القدر المباركة:
1- لقد سُمِّيت ليلة القدر بهذا الاسم؛ لعظيم قدرها وشرفها وفضلها في ذاتها، وأن فعل الطاعات فيها له قدر ومكانة ومنزلة، ولأنَّ الله تبارك وتعالى أنزل فيها كتابًا ذا قدر على رسول ذي قدر، واختصَّ بها أمَّة ذات قدر على باقي الأُمَم، والله جلَّ وعلا يُقدِّر في ليلة القدر ما شاء من أمره إلى السنة القابلة، كما قال الله تعالى: ﴿ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ﴾ [الدخان: 4].
2- لقد تواتَرَت الأحاديثُ في فضل ليلة القدر المباركة، وأنها في شهر رمضان، في العشر الأواخر منه، وخصوصًا في أوتارها، ففي الحديث عن أبي سعيد الخُدْري رضي الله تعالى عنه قال: «اعْتَكَفَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عَشْرَ الأُوَلِ مِن رَمَضَانَ واعْتَكَفْنَا معهُ، فأتَاهُ جِبْرِيلُ، فَقالَ: إنَّ الذي تَطْلُبُ أمَامَكَ، فَاعْتَكَفَ العَشْرَ الأوْسَطَ، فَاعْتَكَفْنَا معهُ، فأتَاهُ جِبْرِيلُ فَقالَ: إنَّ الذي تَطْلُبُ أمَامَكَ، فَقَامَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ خَطِيبًا صَبِيحَةَ عِشْرِينَ مِن رَمَضَانَ، فَقالَ: مَن كانَ اعْتَكَفَ مع النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فَلْيَرْجِعْ، فإنِّي أُرِيتُ لَيْلَةَ القَدْرِ، وإنِّي نُسِّيتُهَا، وإنَّهَا في العَشْرِ الأوَاخِرِ، في وِتْرٍ، وإنِّي رَأَيْتُ كَأَنِّي أسْجُدُ في طِينٍ ومَاءٍ…»؛ «أخرجه البخاري، (٨١٣)».
3- ليلة القدر ليلة باقية في كُلِّ سنة إلى قيام الساعة:
ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يعتكف، ويُكثِر من التعبُّد في العشر الأواخر من رمضان، رجاء ليلة القدر؛ ففي الحديث عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: «كانَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم يَعْتَكِفُ في كُلِّ رَمَضان عَشَرَةَ أيَّامٍ، فَلَمَّا كانَ العامُ الذي قُبِضَ فيه اعْتَكَفَ عِشْرِينَ يَوْمًا..»؛ «أخرجه البخاري (2044)».
وفي الحديث عن عائشة أُمِّ المؤمنين رضي الله تعالى عنها قالت: «كانَ رَسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَجْتَهِدُ في العَشْرِ الأواخِرِ، ما لا يَجْتَهِدُ في غيرِهِ»؛ «أخرجه مسلم (1175)».
4- إنَّ ليلة القدر هي أفضلُ ليالي السَّنة على الإطلاق؛ لذلك يُستحبُّ أن يكون اجتهادُ العباد في يومها كاجتهادهم في ليلتها، فلقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يَجْتَهِدُ في العَشْرِ الأواخِرِ، ما لا يَجْتَهِدُ في غيرها من الأيام والليالي، ففي الحديث عن عائشة أُمِّ المؤمنين رضي الله تعالى عنها قالت: «كانَ رَسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَجْتَهِدُ في العَشْرِ الأواخِرِ، ما لا يَجْتَهِدُ في غيرِهِ»؛ «أخرجه مسلم (1175)».
وفي الحديث عن عائشة أُمِّ المؤمنين رضي الله تعالى عنها قالت: «كان إذا دخل العشرُ شدَّ مِئْزَرَهُ، وأحْيَا ليلَهُ، وأيْقَظَ أهلَهُ»؛ «أخرجه البخاري (2024)، ومسلم (1174)».
5- إنَّ الأقرب إلى الدليل، أن ليلة القدر تنتقل، وليست ثابتةً في ليلة محدَّدة من كل عام، بل مرةً تكون ليلة إحدى وعشرين، ومرة تكون في ثلاث وعشرين، ومرة تكون في خمس وعشرين، ومرة تكون في سبع وعشرين، ومرة تكون في تسع وعشرين، فهي بهذا مجهولة لا معلومة، وأرجى الأقوال أنها في ليلة سبع وعشرين.
ففي الحديث عن عبدالله بن عباس رضي الله تعالى عنه: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «التمِسوها في العَشْرِ الأواخِرِ من رمضانَ، في تاسِعةٍ تَبْقى، وفي سابِعةٍ تبقى، وفي خامسةٍ تبقى»؛ «أخرجه البخاري (2021)».
وفي الحديث عن عبادة بن الصامت قال: «أخبَرَنا رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عن لَيلةِ القَدْرِ فقال: هي في شَهرِ رَمضانَ، فالتمِسوها في العَشْرِ الأَواخِرِ، فإنَّها وِترٌ: لَيلةُ إحدى وعِشرينَ، أو ثَلاثٍ وعِشرينَ، أو خَمسٍ وعِشرينَ، أو سَبعٍ وعِشرينَ، أو تِسعٍ وعِشرينَ، أو آخِرِ لَيلةٍ مِن رَمضانَ، مَن قامها احتِسابًا غُفِرَ له ما تَقدَّمَ مِن ذَنبِه..»؛ «أخرجه أحمد (22763) واللفظ له، والشاشي في «المسند» (1289)، والخطيب في «الموضح» (2/ 328) باختلاف يسير، وشعيب الأرنؤوط، تخريج المسند (22763)، حسن دون قوله: «أو في آخر ليلة».
6- لقد أخفى الشارع الحكيم وقتها؛ لئلا يتَّكِل العبادُ على هذه الليلة، ويَدَعُوا العمل والعبادة في سائر ليالي شهر رمضان المبارك، وبذلك يحصل الاجتهاد في ليالي الشهر كُلِّه، وخاصة في العشر الأواخر منها، حتى يدركها الإنسان.
وقد تُكشَف ليلة القدر المباركة لبعض الناس في المنام أو اليقظة، فيرى أنوارها.
قال الإمام ابن تيمية: «وقد يكشفها الله تعالى لبعض الناس في المنام أو اليقظة، فيرى أنوارها، أو يرى من يقول له: هذه ليلة القدر، وقد يفتح على قلبه من المشاهدة ما يتبيَّن به الأمر»؛ «مجموع الفتاوى، لابن تيمية، (25/ 284ـ286)».
وقال الإمام النووي: «فإنها تُرى وقد حقَّقها من شاء الله تعالى من بني آدم كلَّ سنة في رمضان، كما تظاهرت عليه هذه الأحاديث، وأخبار الصالحين بها، ورؤيتهم لها أكثر من أن تُحصَر، وأما قول القاضي عياض عن المهلب بن أبي صفرة: “لا يمكن رؤيتها حقيقة، فغلط فاحش، نبَّهتُ عليه؛ لئلا يُغترَّ به»؛ «شرح النووي على مسلم، (1/ 77)».
وذكر بعض أهل العلم أنه يُستحبُّ لمن رأى ليلة القدر كتمان ذلك، وألَّا يُخبِر بذلك أحدًا؛ لكونها كرامةً، والكرامةُ ينبغي كتمانُها بلا خلافٍ.
فلقد نُقِل عن الحافظ ابن حجر العسقلاني قوله: إنَّ مَن رأى ليلة القدر، استُحِبَّ له كتمان ذلك، وألا يخبر بذلك أحدًا، والحكمة في ذلك أنها كرامةٌ، والكرامةُ ينبغي كتمانها بلا خلاف.
7- ومن العلامات التي تُعرَف بها ليلة القدر، أنَّ الشمس تطلُع في صبيحة يومها بيضاء لا شعاع لها؛ حيث يَرْوي التَّابعيُّ زِرُّ بنُ حُبَيشٍ قال: سَمِعْتُ أُبَيَّ بنَ كَعْبٍ يقولُ: وقِيلَ له: إنَّ عَبْدَاللهِ بنَ مَسْعُودٍ يقولُ: مَن قامَ السَّنَةَ أصابَ لَيْلَةَ القَدْرِ، فَقالَ أُبَيٌّ: واللَّهِ الذي لا إلَهَ إلَّا هُوَ، إنَّها لَفِي رَمَضانَ، يَحْلِفُ ما يَسْتَثْنِي، وواللَّهِ إنِّي لأَعْلَمُ أيُّ لَيْلَةٍ هي، هي اللَّيْلَةُ الَّتي أمَرَنا بها رَسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بقِيامِها، هي لَيْلَةُ صَبِيحَةِ سَبْعٍ وعِشْرِينَ، وأَمارَتُها أنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ في صَبِيحَةِ يَومِها بَيْضاءَ لا شُعاعَ لَها..»؛ «أخرجه مسلم (762)».
ولعل ذلك بسبب كثرة اختلاف الملائكة في ليلتها ونزولها إلى الأرض وصعودها بما تنزل به، سترت بأجنحتها وأجسامها اللطيفة ضوء الشمس وشعاعها.
وأما غير ذلك من العلامات، فلا يثبت فيها حديث صحيح؛ ككونها ليلةً ساكنةً، لا حارَّة ولا باردة، ولا يُرى فيها نجم، ولا يحل للشيطان أن يخرج مع الشمس يومئذٍ، وغيرها من العلامات غير الثابتة.
8- ما الأفضل؛ ليلة القدر أم ليلة الإسراء؟
إنَّ ليلة القدر أفضل من ليلة الإسراء بالنسبة إلى الأُمَّة، وإنَّ ليلة الإسراء أفضل من ليلة القدر في حقِّ النبي صلى الله عليه وسلم.
قال الإمام ابن تيمية: «ليلة الإسراء أفضلُ في حقِّ النبي صلى الله عليه وسلم، وليلة القدر أفضلُ بالنسبة إلى الأُمَّة»؛ «مجموع الفتاوى، لابن تيمية، (25/ 286)».
إذًا فهنيئًا ثم هنيئًا لمَن قام ليلة القدر على الوجه المطلوب منه شرعًا مؤمنًا بالله تبارك وتعالى وبما شرعه سبحانه، ومحتسِبًا للثَّواب والأجر من الله جل وعلا، فإنَّ المَرْجُوَّ والمؤمَّل من الله تعالى أن يُغفَرَ للعبد ما تقدَّمَ من ذنوبِه، فرحمة الله جل وعلا واسعةٌ، فلقد وسعت السموات والأرض، أفلا تتسع لعبد ضعيف مسكين يرجو رحمةَ ربِّه جل وعلا وعفوه ومغفرته، ويخاف عقابه، والرجاء بالله تعالى عظيم.
هذا ما تم إيراده، نسأل الله العلي الأعلى أن ينفع به، وأن يجعله من العلم النافع والعمل الصالح، وأن يُعيننا على قيام شهر رمضان المبارك وصيامه، وأن يجعلنا فيه من المقبولين، ومن عتقائه من النار، ووالدينا أجمعين، والحمد لله ربِّ العالمين.