توجيه الأنظار والبصائر إلى العبرة من المناسك والمشاعر (خطبة)
توجيه الأنظار والبصائر
إلى العبرة من المناسك والمشاعر
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله، فلا مضل له، ومن يضلل، فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102].
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ [النساء: 1].
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 70، 71]؛ أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أعاذني الله وإياكم وسائر المسلمين من النار، ومن كل عمل يقرب إلى النار، اللهم آمين.
أيها الإخوة الكرام، تهُبُّ علينا في هذه الأيام نسائمُ الاستعدادات لحج بيت الله الحرام، وشدِّ الرِّحال إلى المسجد الحرام، فما هي إلا أيام ويتوجه وفد الله إلى مِنًى متوكلين على الله، تاركين الأهل والأوطان، يحدُوهم الإخلاص والإيمان، مستجيبين لنداء خليل الرحمن؛ إبراهيم عليه السلام، الذي نادى قبل آلاف الأعوام، فأسمع من في الأصلاب والأرحام؛ قال سبحانه: ﴿ وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ ﴾ [الحج: 27].
بلد الله الحرام؛ إنه مكة، إنه بكَّة، بكة؛ لأنها تبُكُّ وتدُقُّ أعناقَ الجبابرة، فلم يقصدها جبَّارٌ بسوء إلا قصمه الله تعالى.
إنه بيت الله الحرام، ولِمَ الحج إلى بيت الله الحرام؟ ولِمَ زيارته وقصده بالحج والعمرة، وتخصيصه بالقبلة؟
فلْنَطِرْ بأرواحنا هناك، وأجسامنا هنا.
والجواب: أولًا: طاعةً لله عز وجل؛ الذي أمر بذلك فقال: ﴿ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ ﴾ [البقرة: 144].
ثانيًا: نزوره نتوجه إليه، ونحج ونعتمر هناك؛ طاعةً لرسول الله صلى الله عليه وسلم القائل: ((… وتحُج البيت إن استطعت إليه سبيلًا))؛ [مسلم (م) 1- (8)].
ثالثًا: الحج إلى بيت الله الحرام هو الركن الخامس من أركان الإسلام؛ قال سبحانه: ﴿ وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ﴾ [آل عمران: 97].
إن بلد الله الحرام قد تميَّز عن غيره من البُلدان، وفاق غيره من الأراضي والعمران، لا بخصوبة تربته، ولا بهوائه العليل، أو كثرة حدائقه وأشجاره، أو لانتشار زروعه، أو جريان أنهاره، والله هذه الأشياء لا توجد هناك في الأرض، فهذه ونحوها معدومة في هذا البلد الأمين، وغير موجودة بنص القرآن المبين؛ فقد قال إبراهيم الخليل عليه السلام: ﴿ رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ ﴾ [إبراهيم: 37].
بلد الله الحرام جوُّه شديد الحرارة، وأرضه صحراء قاحلة، الجبال والوِهاد والوديان فيه أكثر من السهول، وإذا نزلت بركات الأمطار من السماء، كثُرت الفيضانات والسيول.
إذًا؛ لم يفضَّل بيت الله الحرام بالترفيه عن النفوس بالمتع الدنيوية، أو الشهوات الشخصية الذاتية.
لقد تميَّز بلد الله الحرام عن غيره من البقاع والأماكن والأصقاع، بهبات ربانية، ومنح إلهية، وخُصَّ بفضائلَ لا توجد في غيره؛ منها: أن فيه أولَ بيت وُضع للعبادة؛ قال سبحانه: ﴿ إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ ﴾ [آل عمران: 96].
وهو أول مسجد بُنيَ في الأرض لله؛ فعندما سأل أبو ذر رضي الله عنه رسولَ الله صلى الله عليه وسلم: ((أي مسجد وُضع أولًا؟ قال: المسجد الحرام، قلت: ثم أي؟ قال: المسجد الأقصى، قلت: وكم بينهما؟ قال: أربعون عامًا، والأرض – أي: كل الأرض بعد ذلك – لك مسجد؛ فحيثما أدركتَ الصلاةَ فصلِّ))؛ [البخاري (3366)، ومسلم (520)].
بلد الله الحرام فُضِّل على غيره؛ لاحتوائه على مقدسات ومناسكَ، وأماكنَ لا تكون في غيره؛ منها:
الكعبة؛ بيت الله جل جلاله، لا توجد إلا في بلد الله الحرام؛ قال سبحانه: ﴿ جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ ﴾ [المائدة: 97].
إنه المسجد الحرام، وهو قبلة المسلمين إلى يوم القيامة.
وفيه مقام إبراهيم عليه السلام؛ الذي قال عنه الله سبحانه: ﴿ فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ ﴾ [آل عمران: 97].
ويوجد فيه وحده حجارةٌ من أحجار الجنة؛ جاء بها جبريل لإبراهيم عليهما السلام؛ منها الركن والمقام.
فالحجر الأسود وهو الركن، ومقام إبراهيم، اللذان قال فيهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الركن والمقام ياقوتتان من ياقوت الجنة، طمس الله نورهما، ولو لم يطمس نورهما؛ لأضاءتا ما بين المشرق والمغرب))؛ [رواه الترمذي (878)، صحيح الجامع: (1633)، صحيح الترغيب: (1147)]، فما السبب في طمس نور هذين الحجرين؟
وسبب طمس نورهما ما قاله صلى الله عليه وسلم: ((… ولولا ما مسَّهما من خطايا بني آدم، لأضاءا ما بين المشرق والمغرب، وما مسهما من ذي عاهة ولا سقيم إلا شُفِيَ))؛ [السنن الكبرى للبيهقي (5/ 122، ط العلمية)، ح (9229)، انظر: صحيح الترهيب: (1147)، الصحيحة تحت حديث: (2618)].
فالحجر الأسود أقسم بشأنه رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقال: ((والله ليبعثَنَّه الله يوم القيامة، له عينان يبصر بهما، ولسان ينطق به، يشهد على من استلمه بحقٍّ))؛ [رواه الترمذي (961)، وقال: حديث حسن، انظر سائر الروايات في صحيح الترغيب (1144)].
البلد الحرام الذي فيه الركن اليماني الذي تُمحى السيئات وتُحط الخطايا باستلامه؛ فقد قال صلى الله عليه وسلم: ((إن استلامهما يحط الخطايا))؛ [مسند أحمد (8/ 31)، رقم: (4462)، المشكاة (2580)، صحيح الجامع (2194)].
وفي البلد الحرام ماء زمزم؛ التي منحها الله لهاجرَ أمِّ العرب، وابنها إسماعيلَ عليه السلام أبي العرب، إن جبريل لما ركض زمزمَ بعَقِبه؛ ليشرب إسماعيل عليه السلام وأمه، جعلت أم إسماعيل تجمع البطحاء؛ يعني: عندما فاض الماء، ونبع، جعلت تَحُوطه بـالرمل؛ فقال صلى الله عليه وسلم: ((يرحم الله أم إسماعيل؛ لو تركت زمزم – أو قال: لو لم تغرف من الماء – لكانت عينًا معينًا))؛ [(خ) (2368)].
إن ((خير ماء على وجه الأرض ماء زمزم))؛ هكذا قال صلى الله عليه وسلم ((فيه طعام من الطُّعْمِ))؛ من شرِبه بنية الغذاء يشبع، ((وشفاء من السُّقم))؛ ومن شربه بنية الشفاء والدواء يُشفَ، هذا خير ماء على وجه الأرض، فهل هناك شر ماء على وجه الأرض؟
نعم، قال صلى الله عليه وسلم في باقي الحديث: ((والله ما على وجه الأرض ماء شرٌّ من ماء بئر بوادي بَرَهُوت))؛ ووادي برهوت هو عبارة عن بئر عميقة بحضرموت، لا يمكن نزول قعرها، هذا الماء فيه، وفيه ((كرِجْلِ الجَرَاد من الهَوامِّ))؛ حشرات لا يعلم قدرها وعددها إلا الله ((يصبح يتدفق ويمسي لا بَلالَ بها))؛ [المعجم الكبير للطبراني، ت: حمدي السلفي (11/ 98)، (11167) عن ابن عباس، والصحيحة (1056)]، نسأل الله السلامة، وقيل: إن هذا فيه أرواح الكفار والعياذ بالله.
قال المناوي: “أي: ليس بها قطرة ماء، بل ولا أرضها مبتلة، وإنما كانت أشر؛ لأن بها أرواح الكفار كما ورد في خبر آخر”؛ [التيسير بشرح الجامع الصغير (1/ 531)].
واعلموا أن ماء زمزم لِما شُرِب له؛ [(جه) (3062)، (حم) (14849)، وحسنه الألباني في الصحيحة تحت حديث: (883)، والإرواء: (1123)، وانظر رقم (5502) في صحيح الجامع].
قال ابن القيم رحمه الله: “… وقد جربتُ أنا وغيري من الاستشفاء بماء زمزم أمورًا عجيبةً، واستشفيت به من عدة أمراض، فبَرَأت بإذن الله…”؛ [زاد المعاد في هدي خير العباد، الرسالة (4/ 361)].
وفي بلد الله الحرام جبلا الصفا والمروة؛ اللذان قال الله سبحانه وتعالى فيهما: ﴿ إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 158].
والسعي بينهما في حج أو عمرة فيه ثواب عظيم، كم الثواب في السعي بينهما في الحج والعمرة؟ استمع إلى قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث: ((… وأما سعيك أيها الحاج بين الصفا والمروة، فكعتق سبعين رقبةً…))؛ [مسند البزار (12/ 317)، رقم: (6177)]، كأنك اشتريت سبعين عبدًا، وقلت لهم: أنتم عتقاء لوجه الله.
ومِنًى؛ التي تُمنى – أي: تراق – فيها الدماء؛ دماء القرابين والهدايا والأضاحي؛ التي ﴿ لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ ﴾ [الحج: 37]، قال صلى الله عليه وسلم: ((… وكل مِنًى مَنحَر، وكل فِجاج مكة منحر، وكل جمع – أي: مزدلفة – موقف))؛ [أبو داود (2324)، صحيح الجامع (4225)].
أما مزدلفة ففيها المشعر الحرام؛ الذي قال الله تعالى فيه: ﴿ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ ﴾ [البقرة: 198]، وكل المزدلفة موقف؛ [(د) (1937)، (جه) (3048)، عن جابر، وانظر (4536) في صحيح الجامع].
وهناك من المشاعر جبل نعمان – أو نعيمان – وهو ما يعرفه الناس بـعرفة، وجبل عرفة أو عرفات، هنا ((أخذ الله الميثاق من ظَهْرِ آدم بنعمانَ))؛ يعني عرفة، ((فأخرج من صلبه كل ذرية ذرأها، فنثرهم بين يديه كالذَّرِّ، ثم كلَّمهم قُبُلًا))؛ الله كلم ذرية آدم ((قال: ﴿ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ ﴾ [الأعراف: 172، 173]))؛ [أخرجه أحمد (2455)، (ن) (11191)، (ك) (75)، انظر صحيح الجامع: (1701)، والصحيحة (1623)].
فمناسك الحج والعمرة فيها حِكَمٌ وعِبَرٌ، فمن نظر بعين التدبر والتفكر، وَجَدَ في كل منسك ما شاء الله من الحِكَمِ والعِبَرِ.
وفي هذه الكلمات، وباختصار العبارة نركز النظر، ونستلهم العِبر، ونُمْعِن الفكر، في الأحكام المتعلقة بالجماد هناك والحجر.
فإذا كان كذلك، وجدنا أن من مناسك الحج والعمرة عدة أحكام تتعلق بالحجارة:
فحجرٌ يُسجد عليه ويُلمس ويُقبَّل، ويُشار إليه، وآخر يُلمَس ولا يُقبَّل، ولا يُشار إليه، وهناك حجر يُرمى ويرجم، وحجر يُصلَّى خلفه، وأحجار أخرى يُطاف حولها ونصلي نحن متجهين إليها، أو نسعى بينها، وحجر يُدعى عنده، وأخرى يجب تحطيمها والتخلص منها.
أولًا: ما يُطاف حولها من الأحجار ويُصلى إليها؛ فهي الكعبة بيت الله الحرام، أحجار وجدران، لكن عبوديةً لله نتوجه إليها في صلاتنا، ونطوف حولها في مناسكنا؛ فقد جاء أنه ((لما بُنِيَتِ الكعبة، ذهب النبي صلى الله عليه وسلم وعباس))؛ أي: عمه، ((ينقُلان الحجارة))، التي سيبنيان بها الكعبة، ((فقال العباس للنبي صلى الله عليه وسلم: اجعل إزارك على رقبتك))؛ لأنه ليس عليه إلا إزار صلى الله عليه وسلم، فلما جعله على رقبته بَدَتْ عورته، فماذا حدث؟ ((فخرَّ إلى الأرض، وطمحت عيناه إلى السماء، فقال: أرني إزاري، فشده عليه))؛ [البخاري (1582)].
وصارت الكعبة والمسجد الحرام قبلةً للمسلمين إلى يوم القيامة.
عباد الله، ((من طاف بهذا البيت أسبوعًا يحصيه، كُتب له بكل خطوة حسنة، وكُفِّرت عنه سيئة، ورفعت له درجة، وكان عدل عتق رقبة))؛ [رواه الطبراني في الكبير، (13440)، صحيح الترغيب (1139، 1140)].
ثانيًا: أما ما يُسجَد عليه ويُلمَس ويُقبَّل ويُشار إليه؛ فهو الحجر الأسود؛ فقد نزل الحجر الأسود من الجنة، وهو أشد بياضًا من اللبن، فسوَّدته خطايا بني آدم؛ [رواه والترمذي (ت) (877)].
إن استلام الحجر الأسود وتقبيله والسجود عليه سُنة لمن استطاع.
ثالثًا: أما ما يُلمَس فقط ولا يُقبَّل ولا يُشار إليه؛ فهو الركن اليماني؛ فإن استلامه مع الحجر الأسود يحط الخطايا؛ [(حم) (4462)، صحيح الترغيب (1139)].
رابعًا: أما ما يُصلَّى خلفه، فهو مقام إبراهيم عليه السلام، ما هو أصل الحجر الأسود والمقام؟ وما هو كُنْهُهما؟ ((إن الركن والمقام ياقوتتان من ياقوت الجنة…))؛ [الترمذي (878)].
فالمقام لا يُلمَس ولا يُقبَّل ولا يُسجَد عليه، ولا يُشار إليه، بل يُصلَّى عنده، فإذا انتهى الحاج من الشوط السابع غطَّى كتفه الأيمن، وانطلق إلى مقام إبراهيم؛ وقرأ: ﴿ وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى ﴾ [البقرة: 125]، وجعل المقام بينه وبين الكعبة وصلى عنده ركعتين، وقرأ فيهما: ﴿ قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ ﴾ [الكافرون: 1]، و﴿ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ﴾ [الإخلاص: 1]، ونحن عباد للرحمن، فهذا حجر يرجم، وهذا يُقبَّل، وهذا يُسجَد عليه، فنحن نطيع الله عز وجل.
خامسًا: أما ما نسعى بينها، فهما الصفا والمروة، جبلان صغيران قريبان من الكعبة، نسعى بينهما كما سعت بينهما هاجر أم إسماعيل، أم العرب؛ هاجر القبطية المصرية، كانت تسعى؛ باحثةً عن الماء لابنها إسماعيل عليه السلام، فمن السُّنَّة إذا وقفنا على الصفا أن نكبِّر ثلاثًا، ونقول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، نصنع ذلك ثلاث مرات، وندعو، ونصنع على المروة مثل ذلك، ونُهَرْوِل بين الميلين الأخضرين.
سادسًا: أما ما يُدعى عنده، فهو عرفات، نقف هناك، ونجعل جبل الرحمة بيننا وبين الكعبة، وندعو الله سبحانه وتعالى، والدعاء هناك دعاء يوم عرفة سواء للحجاج، أو للمسلمين في عموم الأرض، دعاء إن شاء الله لا يُرَدُّ، ومجاب بأمر الله سبحانه وتعالى، فلنُكْثِر في ذاك اليوم من قول: ((لا إله إلا الله وحده، لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير))؛ [(ت) (3585)، الصحيحة (1503)].
وفي أي مكان من عرفة وقف الحاج يوم التاسع، فقد أدرك، ما دام داخل العلامات، فـ((كل عرفة موقف…))؛ [(د) (1937)، (جه) (3012)، صحيح الجامع (4536)].
سابعًا: أما ما يُرمى ويرجم، فالجمرات الثلاث الصغرى والوسطى والكبرى، على الكيفية التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم وبيَّنها لنا في سنته؛ وهي عبارة عن أحجار تُرمى بأحجار صغيرة؛ ذكرًا وتعبدًا لله، وطاعةً لرسول الله صلى الله عليه وسلم القائل: ((ارموا الجمرة بمثل حصى الخَذْفِ))؛ [مسند أحمد، (16588)، الصحيحة (1437)].
قال الشافعي: حصى الخذف أصغر من الأنملة طولًا وعرضًا؛ [القاموس الفقهي (1/ 113)]، صغيرة؛ حتى لا تؤذي من وقعت عليه.
ثامنًا: أما الحجارة التي يجب على ولاة أمور المسلمين تحطيمها والتخلص منها؛ فهي الأصنام والأوثان، والأنصاب والأضرحة التي يُطاف حولها، ويُذبح ويُدعى عندها، التي يقدسها الناس دون استناد إلى شرع، أو إذن من الله؛ قال سبحانه: ﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ ﴾ [إبراهيم: 35].
لقد دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكَّةَ منتصرًا، وحول الكعبة ثلاثمائة وستون نُصُبًا أو صنمًا، فجعل يطعنها بعود في يده؛ وجعل يقول: ﴿ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا ﴾ [الإسراء: 81]؛ [البخاري (2478)].
وقال صلى الله عليه وسلم في وصاياه لعلي رضي الله عنه: ((ألَّا تَدَعَ تمثالًا إلا طمسته، ولا قبرًا مشرفًا إلا سوَّيْتَه))؛ [مسلم (969)].
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم.
الخطبة الأخيرة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، واهتدى بهداه إلى يوم الدين؛ أما بعد:
فمن باب التذكير، فلنغتنم هذه الأيام الفاضلة بالطاعات، ولنجتنب الملهيات، ولو كانت هذه الملهيات من المباحات، فيا من شغلك الجوَّال ومواقع اللهو، اتَّقِ الله في تضييع أوقاتك الثمينة فيما يسمى لعبة (الببجي)، وتلك الملهيات التي ينسى فيها اللاعب نفسه، فيرتفع صوته، ويعلو صراخه، وينسى نفسه، ولا أحد عنده، ويكلم نفسه يا عباد الله، ويخاطب مجهولًا يظنه أمامه، فيؤذي من حوله ويضرهم، فاللهو المباح يصبح حرامًا، إذا ما سبب ضررًا أو أذًى لغيره، أو أضاع واجبًا أو وقتًا في غير ذكر الله جل جلاله.
هيا فلْنُلْقِ الجوالات والحواسيب، والآيابادات والآيفونات، ونجلس جلسةً عائلية، نتذاكر فيها ما يحثنا على التمسك بأحكام وآداب هذا الدين، ويرغِّبنا في المواظبة على الصلوات في أوقاتها، ونحو ذلك من العبادات؛ قال سبحانه: ﴿ وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى ﴾ [طه: 132].
فلنتفرغ إلى ذكر الله، والتلاوة والصلاة على النبي الرحمة المهداة رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي صلَّى الله عليه وصلت عليه ملائكته؛ فقال سبحانه: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وخلفائه وأصحابه، وأنصاره والمهاجرين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
اللهم اغفر لنا، وارحمنا وارضَ عنا، وتقبَّل منا، وأدخلنا الجنة، ونجنا من النار، وأصلح لنا شأننا كله، اللهم اغفر لنا ذنوبنا كلها دِقَّها وجُلَّها، وأولها وآخرها، وعلانيتها وسرها.
اللهم إنا نسألك الثبات في الأمر، والعزيمة في الرشد، ونسألك شكر نعمتك، وحسن عبادتك، ونسألك قلوبًا خاشعةً سليمةً، وأخلاقًا مستقيمةً، وألسنةً صادقةً، وأعمالًا متقبلةً.
ونسألك من خير ما تعلم، ونعوذ بك من شر ما تعلم، ونستغفرك لِما تعلم؛ فإنك تعلم ولا نعلم، وأنت علَّامُ الغيوب.
اللهم اغفر لنا ما قدَّمنا وما أخَّرنا، وما أسررنا وما أعلنَّا، وما أنت أعلم به منا، فإنك أنت المقدِّم، وأنت المؤخِّر، وأنت على كل شيء قدير، وعلى كل غيب شهيد.
أيها المؤذن؛ ﴿ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ ﴾ [العنكبوت: 45].