تفسير آيات من سورة غافر (دعاء الملائكة للمؤمنين)؟
دعاء الملائكة للمؤمنين
﴿ الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾ [غافر: 7- 9].
تفسير الآيات:
أخبر تعالى بخبر يتضمن تشريف المؤمنين، ويعظم الرجاء لهم؛ وهو أن الملائكة الحاملين للعرش والذين حول العرش -وهم أفضل الملائكة- يستغفرون للمؤمنين، ويسألون الله تبارك وتعالى لهم الجنة والرحمة[1]، فقال الله: ﴿ الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ ﴾، ما هو العرش؟ هو عرش الرحمن عز وجل، وهو أكبر المخلوقات وأعظمها وأوسعها وأشرفها فيما عدا المكلفين، هذا العرش لا يعلم قدره إلا الله عز وجل[2].
﴿ وَمَنْ حَوْلَهُ ﴾ طائفةٌ من الملائكة تحف بالعرش تحقيقًا لعظمته[3]، ﴿ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ ﴾ ولما كان ربما وقع في وهم أنه سبحانه محتاجٌ إلى حملهم لعرشه أو إلى عرشه أو إلى شيء، نبَّه بالتسبيح على أنه غنيٌّ عن كل شيء، وأن المراد بالعرش والحملة ونحو ذلك إظهار عظمته[4].
﴿ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا ﴾ وهذا من جملة فوائد الإيمان وفضائله الكثيرة جدًّا؛ أن الملائكة الذين لا ذنوب عليهم يستغفرون لأهل الإيمان، فالمؤمن بإيمانه تسبب لهذا الفضل العظيم[5]، وصيغة المضارع في “يسبحون”، و”يؤمنون”، و”يستغفرون” مفيدةٌ لتجدد ذلك وتكرره [6].
﴿ رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا ﴾ وسعت رحمتك كل شيء وعلمك كل شيء، فمعنى ﴿ وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ ﴾؛ أي: أحطتَ به رحمةً، وأحطتَ به علمًا، فما بلغه علم الله بلغته رحمته[7]، وقدم الرحمة؛ لأنهم بها يستمطرون إحسانه، ويتوسلون بها إلى حصول مطلوبهم من سؤال المغفرة[8]؛ لأن المقام مقام الاستغفار[9].
﴿ فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ ﴾ جنات عدن؛ أي: جنات إقامة، ووُصِفت بذلك؛ لأن أهلها لا يبغون عنها حولًا، ولأنها دائمة أبد الآبدين[10]، ﴿ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ ﴾ التوسل إلى الله تعالى بإجابة الدعاء، كأنهم يقولون: أدخلهم هذا؛ لأنك وعدتهم إياه، فيكون من باب التوسل بوعده إلى تحقُّق موعوده[11]، ﴿ وَمَنْ صَلَحَ ﴾ وصفهم بالصلاح ليعلم أن مجرد النسب لا يغني[12].
﴿ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ ﴾؛ أي: من أصولهم وفروعهم وأزواجهم على سبيل التكريم والزيادة في فرحهم ليتم سرورهم وفرحهم؛ إذ وجود الآباء والأزواج والذرية مع الإنسان في الجنة يزيد سروره وانشراحه[13].
﴿ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ الذي لا يمانع ولا يغالب، وما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، الحكيم في أقوالك وأفعالك، من شرعك وقدرك[14]. فمصدر ذلك وسببه وغايته صادرٌ عن كمال قدرتك وكمال علمك، فإن العزة كمال القدرة، والحكمة كمال العلم، وبهاتين الصفتين يقضي سبحانه وتعالى ما شاء، ويأمر وينهى ويثيب ويعاقب، فهاتان الصفتان مصدر الخلق والأمر[15]، ثم طلبوا بعد ذلك أن يصونهم الله تعالى في الدنيا عن العقائد الفاسدة بقولهم: ﴿ وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ ﴾[16]هذا يتضمن طلب وقايتهم من سيئات الأعمال وعقوباتها التي تسوء صاحبها، فإنه سبحانه متى وقاهم عمل السيئ وقاهم جزاء السيئ[17].
﴿ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾ وصف الفوز بالعظيم؛ لأنه فوزٌ بالنعيم خالصًا من الكدرات التي تنقص حلاوة النعمة[18]، ووصف بالفوز العظيم حيث وجدوا بأعمال منقطعة نعيمًا لا ينقطع، وبأفعال حقيرة ملكًا لا تصل العقول إلى كُنْه جلالته[19].
• في الآية: دليل على فضل المؤمنين، وبيانه أن الملائكة مشتغلون بالدعاء لهم[20]، «قال مطرف بن عبدالله: وجدنا أنصح عباد الله لعباد الله الملائكة، ووجدنا أغش عباد الله لعباد الله الشيطان، وتلا هذه الآية»[21].
• أشار تعالى إلى أن الرابطة التي ربطت بين حملة العرش ومن حوله، وبين بني آدم في الأرض حتى دعوا الله لهم هذا الدعاء الصالح العظيم، إنما هي الإيمان بالله جل وعلا؛ لأنه قال عن الملائكة: ﴿ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ ﴾ فوصفهم بالإيمان، وقال عن بني آدم في استغفار الملائكة لهم: ﴿ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا ﴾ فوصفهم أيضًا بالإيمان، فدلَّ ذلك على أن الرابطة بينهم هي الإيمان، وهو أعظم رابطة[22].
• أخبر عنهم بالإيمان إظهارًا لفضله وتعظيمًا لأهله[23].
• فيه تنبيهٌ على أن الاشتراك في الإيمان يجب أن يكون أدْعَى شيء إلى النصيحة، وأبعثه على إمحاض الشفقة، وإن تفاوتت الأجناس وتباعدت الأماكن[24].
• جاء النداء بلفظ ربنا ورب، وفيه استعطاف العبد لمولاه الذي ربَّاه وقام بمصالحه من لدن نشأته إلى وقت ندائه، فهو جديرٌ بألَّا يناديه إلا بلفظ الرب[25].
• وهذا يدل على أن مجرد النسب من الصالح لا ينفع، إنما تنفع الأعمال الصالحة [26]، وهذه بشارةٌ بنعمة اجتماعهم مع قراباتهم في الجنة[27].
قال ابن القيم[28]: فهذا دعاء الملائكة للمؤمنين التائبين المُتَّبِعِين لكتابه وسُنَّة رسوله، الذين لا سبيل لهم غيرهما، فلا يطمع غير هؤلاء بإجابة هذه الدعوة؛ إذ لم يتصف بصفات المدعو له بها، والله المستعان.
[1] المحرر الوجيز لابن عطية.
[3] التحرير والتنوير.
[4] نظم الدرر للبقاعي.
[6] التحرير والتنوير.
[8] البحر المحيط لأبي حيان.
[9] فتح البيان للقنوجي.
[10] ابن عثيمين.
[11] ابن عثيمين.
[12] لباب التفاسير للكرماني (ناقص) (ص918 بترقيم الشاملة آليًّا).
[13] التفسير الوسيط للطنطاوي.
[16] اللباب لابن عادل.
[18] التحرير والتنوير.
[19] اللباب لابن عادل.
[20] تفسير السمرقندي = بحر العلوم (3 / 198).
[21] تفسير المراغي: (24 / 48).
[22] أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (3/ 531) ط عطاءات العلم.
[24] البحر المحيط في التفسير: (9 / 238).
[25] البحر المحيط في التفسير: (9 / 238).
[26] التحرير والتنوير.
[27] البحر المحيط لأبي حيان (745هـ).
[28] الداء والدواء.