دعاء عظيم وشاة مصلية


دعاء عظيم وشاة مصليَّة

“اللهم إني أسألك من فضلك ورحمتك؛ فإنه لا يملكها إلا أنت”.

لهذا الدعاء قصة وموقف، فقد روى لنا عبدُاللهِ بنُ مسعودٍ -رضيَ اللهُ عنه- موقفًا من مواقف الحبيب صلى الله عليه وسلم إذ يقول: ضَافَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَأَرْسَلَ إلى أَزْوَاجِهِ يَبْتَغِي عِنْدَهُنَّ طَعَامًا، فَلَمْ يَجِدْ عِنْدَ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ، فَقَالَ: «اللهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ ‌مِنْ ‌فَضْلِكَ ‌وَرَحْمَتِكَ؛ فَإِنَّهُ لَا يَمْلِكُهَا إِلَّا أَنْتَ»، فَأُهْدِيَتْ إِلَيْهِ شَاةٌ مَصْلِيَّةٌ، فَقَالَ: «هَذِهِ مِنْ فَضْلِ اللهِ، وَنَحْنُ نَنْتَظِرُ الرَّحْمَةَ»؛ رواه الطبرانيُّ وصحَّحَه الألبانيُّ.

 

هذا الدعاء الذي يعدُّ من أدعية الرسول صلى الله عليه وسلم هو دعاء جليل القدر، وفيه درس لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان كثيرًا ما يلجأ إلى الله تعالى راغبًا في رحمته وفضله؛ إذ لا غنى لأحد عن استنزال رحمة الله تعالى، وأن الله تعالى رحمته واسعة، وفضله عظيم، عَمَّ جميع خلقه، وقد قال عز وجلَّ عن رحمته: ﴿ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ [الأعراف: 156]، وقال عن فضله: ﴿ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ [البقرة: 251]، وأن كل مستنزل رحمة الله بصدق وإخلاص يغيثه الله بها، وكل متعرض لفضل الله تعالى يُدثِّره الله به، والداخل على الله لا بد أن يستشعر حاجته وغِنى ربِّه، وفقره وكرم ربه، وضعفه وقوة ربه، وحوله وطول ربه، وذنوبه ومغفرة ربه، وأن يقف على باب جلاله بالتعظيم والإجلال، والخضوع والامتثال موقنًا أن الطرق كلها مسدودة إلا طريقًا يفتحه له ربُّه، وأن الدروب كلها موحشة إلا دربًا يؤنسه فيه ربُّه، وأنه مهما بلغ جاهه وملكه وسلطته وغناه يبقى فقيرًا في ملكوت الله لا يملك حولًا ولا قوةً.

وأنت عندما تدعو بهذا الدعاء تستفتحه بقولك: “اللهُمَّ”، وفي هذا الاسم كل صفاتِ الكمالِ والجلال والكبرياء، والغنى التام، والقدرة التامة؛ وهو اسم يشمل جميع الأسماء، وهو الأصل فيها وكلها فرع عنه، فكأنَّ الداعي به مستغيثٌ بكل اسمٍ من أسماءِ الربِّ تعالى، وبكلِّ صفةٍ من صفاتِه؛ فما أجمل الدعاء بهذا الاسم العظيم الذي هو مَظِنَّة إنزال الرحمات، وتفريجِ الكرباتِ، وقبول الدعوات، وإغاثةِ اللهفاتِ، وتسهيل العقبات، وإنالةِ الطلباتِ، وفيه لمن أدمنه حياة القلبِ واستنارته وسلوكه الطريق الأقوم!

وفي هذا الدعاء رجاء رحمةِ اللهِ التي نزلَ جزءٌ واحدٌ من مائتِها إلى سكان الدنيا ومخلوقات الأرض جميعًا، ففاض عليهم كلهم، وفيه رجاء فضل الله الذي فاضت قطرة منه على كل العوالم في السماوات والأرض، وكلهم تحت كنف هذه القطرة من هذا الفضل، وكل فضلٍ في عوالم الكون هو قطرة من هذا الفضل، ورحمة الله وفضله هو أقربُ طريقٍ يُوصِّلُ إلى الفتوح؛ لأنه إذا رحم وتفضل ظفر الداعي بتعجيلِ دعائِه، وقضاءِ حاجتِه؛ وفك كربتهِ.

وفضل الله ورحماته على عبده دينيَّه، ودنيويَّه، وأخرويَّه؛ ومن استنزلها استنزل الخير كله فلا يبقى منه شيءٌ؛ قرُب أو بعُد، قلَّ أو كثُر، كَبُرَ أو صَغُرَ، عَمَّ أو خَصَّ، مَضى أو يُنتظَرُ إلا وشمِلَته هذه الرحمة، وعمَّه هذا الفضل، ومن رَحِمَه ربُّه فلا سوء سيلحقه، ولا كيد سيضُرُّه، ولا مكر سيحيق به، وإذا صَلَحَ شأنُه كلُّه برحمة ربه لم يبقَ للهمِّ طريقٌ إليه، ولم يَعُدْ للكَرْبِ سَطْوةٌ عليه.

إن استشعارَ الداعي عظيمَ افتقارِه لمولاه، وعَيْشه تفاصيلَ هذا الوهن الذي يحيط به، والضعف الذي يهدده أمام ربه في دعائه يوصله إلى أعظم المنازل وأسمى الدرجات، وبه يكونُ مسموعًا مُجابًا قريبًا من الله، وإذا رحمَ الله عبده وامتنَّ عليه بفضله؛ اصطنعه لنفسه، واختاره لذكره، واجتباهُ لمحبَّته، وانتقاه لعبادته، فشغلَ همَّـهُ بـه، وخاطره بمِنَنِه، وقلبه بحبِّه، ولسانـهُ بذكـره والثناء عليه ودعائه، وجـوارحَـهُ بخـدمـتــه.

وأجلى صورِ إظهارِ العبدِ افتقاره لمولاه: دعاؤه ورجاؤه فضله ورحمته وشدةُ تعلُّقِه، وأنه لا غنى له عنه طرفة عين، وأنه مُتبرِّئ من كلِّ حول وطول وقوة سوى اللهِ عزَّ وجلَّ ملازم ذلك الدَّهْرَ كلَّه ما دامَ في الرُّوحِ رَمَقٌ، وفي النفس حياة، وفي القلب نبض؛ ولذا ورد في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: “ولا تَكِلْنِي إلى نفسي طَرْفَةَ عينٍ أبدًا”؛ إذ ذاك هو الخذلانُ الذي ينعكِسُ على حال العبد فلا يَصْلُحُ معه ولا له شيءٌ.

إن العبيدَ كلهم متقلِّبونَ بين توفيقِه وخذلانِه، فمن وفَّقَه فذاك يرجع إلى رحمته وفضلِه، ومن خذله فذاك يرجع إلى عدله وحكمتِه، وهو أعلم حيثُ يجعلُ فضله، ولا غنى لأحد عن فيض رحمته وغيث فضله، فمن شهد هذا المشهد عَلِمَ شدةَ حاجتِه إلى رحمة ربه في كل نَفَسٍ وطرفةِ عينٍ، وأنَّ عبادته لربه هي توفيق من الله له ورحمة به، وفضل منه، ولو تخلَّى عنه ربه طرفةَ عينٍ لَثُلَّ عرْشُ توحيدِه، وانهار سقفُ إيمانه، وانتثرت نجوم عبادته، وامَّحى ضياء صلاته، ورجع القهقرى ناكصًا بعيدًا عن ربِّه، فكان الأولى أن يكون هِجِّيراك ونفَسك هو هذا الدعاء تدأب عليه بقلبك ولسانك.

إنَّ هذا الدعاء من جوامعِ الأدعيةِ التي أحاطتْ -على وجازةِ لفظِها وكثرة معانيها- بحذافيرِ الخيرِ طَلَبًا، ومنها نتعلم توجيه القصد وتوحيد الرب والاعتراف بمصدر النعم، وقد دعا النبيُّ صلى الله عليه وسلم به؛ لما فيه من إقرار الداعي بتوحيدِ اللهِ، وتفرُّده باستحقاقِ العبوديةِ، وإظهاره الافتقار إليه والذل بين يديه، وتحقيق الرجاءِ في الخير الذي يملكه وحده فهو عز وجل بيده الخيرُ كله، ومن حقَّق الاعتماد عليه وفوَّض الأمرَ إليه، واستغاث برحمتِه التي سبقتْ غضبَه ووسعتْ كلَّ شيءٍ نال مطلوبه وحقَّق مرغوبه، ولهذا فكل دعاء تضمَّنَ من التوحيدِ، والاستغاثةِ برحمةِ أرحمِ الراحمين، كان قَمِنًا بالإجابة.

الدعاء سلوان القلوب حين يسيطر الخوف ويزيد القلق، ويظهر التوتُّر ويبدو الارتجاف، فاجعل قلبك خاليًا مما سوى الله، واسأله أن يصنعك على عينه، وأن يجعل رحماته عليك متواترة، وغيوث فضله عليك مترادفة.

إنه الرحمن صاحب الفضل ينزل رحماته فيغسل القلوب، ويُطهِّر الأرواح، ويرفع المشقَّة عن النفوس التي أعياها المسير.

وما أجمل أن يتبرَّأ الإنسان من حَوْله وقوته وحيلته وتدبيره وتفكيره سائلًا ربَّه أن يُطهِّره من كل شائبة، ويبعده عن كل إثم، وأن يملأ قلبه بحبه، ويشغله به وحده، لا غنى له عن رحمته وفضله طرفة عين، وفي هذا يصدق قول القائل:

وقد سألَ الرسول صلى الله عليه وسلم ربَّه من خيره العظيم وفضله الكريم الذي لا يَنفدُ، ممتثِلًا أمرَه؛ إذ يقولُ: ﴿ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ [النساء: 32]، فسألَه فضلَه ورحمتَه التي لا يملكها أحدٌ سواه؛ وبدونها كل البشر في هلاك محقق وخسارة فادحة، كما قالَ تعالى: ﴿ فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ [البقرة: 64]، وبهما الحفظ من كل شيطان وسوء، قال تعالى: ﴿ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا [النساء: 83]، وبها تكونُ تزكيةُ النفوسِ، وطهارة الأرواح، وصفاء القلوب؛ كما قال تعالى: ﴿ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [النور: 21]، وهذه الرحمة وهذا الفضل أعظم ما يفرح به في هذه الحياة؛ فقد قال تعالى: ﴿ قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [يونس: 58].

 

وما إنْ دعا رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم تلك الدعوةَ المجابةَ إلا وتأتي الإجابة سريعًا ونزل الفضل حالًا، وهكذا عندما يدعو الداعي بيقين يملأ قلبه تنزل عليه الإجابة فورًا، فقد طرق بابَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم طارقٌ كريمٌ حاملٌ بين يديه شاةً قد أُحسِنَ شِواؤُها مُهداةً لرسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم؛ فقرَّتْ عينُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم بها، وانبلجت أسارير وجهه، واستبشر بها أيما استبشار، وقدَّمَها ضيافةً لضيفِه النازل عليه، وطعامًا لأهلِه، رادًّا الفضلَ لله وحده صاحب الجود والكرم وحده ليس لأحد سواه ممتثلًا أمر المنعم عز وجل، يقول: ﴿ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [آل عمران: 73]، قائلًا: “هَذِهِ مِنْ فَضْلِ اللهِ”؛ يقول ذلك بإقرار مستشعرًا هذا الفضل الجزيل والكرم العظيم والاستجابة السريعة، متدثرًا بخلق الحياء من المنعم عز وجل، فما أروع العبد وهو يتوجَّه إلى الله طالبًا الفضل والرحمة منه بقلب متيقِّن بإجابة الدعوة شاكرًا نِعَم الله عليه غير متخذٍ لها طريقًا إلى عصيان مولاه حتى ينعم بالزيادة والأجر على هذا الشكر والحمد ومعرفة الفضل.

إنه ينبغي ألَّا يعلق أحدٌ أملَه إلا بالله، ولا يطلب عطاءً إلَّا منه، ولا يخضع إلَّا له، ولا يرجو إلا إيَّاه، ولا يطلب رِضًا إلا رضاه، ولا يخشى إلا منه، ولا يتعلق إلا به، ولا يتوكَّل إلا عليه، بهذه العقيدة يعيش المسلم حياةً سعيدةً طيبةً بعيدةً عن القلق والاضطرابات النفسية وكثرة الهموم، مهما كانت الظروف وضاقت الأحوال، وتصعَّبَت المسالِك.

وقول النبي صلى الله عليه وسلم: “فإنه لا يملكها إلا أنت” يشعرك بتوحيد مصدر الرحمة والفضل، فإنْ لم يرحمك هو لن تجد راحمًا غيره، وإن لم يتفضَّل عليك هو فلن تجد متفضِّلًا سواه، فبعدَ دعاء الداعي وعرضه مسألته على ربِّه يؤكد على عدم امتلاك أحد لأيِّ رحمةٍ؛ إذ هو الراحم المتفضِّل عز وجل وحده.

فارْبَعْ على نفسك واعلم أن العباد أسباب، وأنَّ كل رحمة منهم وفضل هي من رحمة الله لك؛ إذ ألهمهم بالاتجاه نحوك وتسهيل مرادك والإقبال عليك، فإذا عرفت هذا استرحت من التعلُّق بالمخلوقين؛ لعلمك أن كل رحمة وفضل هو مصدرها ومنه نزلت، وإن شاء أمسك فافتقرت وسط الغنى والمال، وذَللتَ في رفعة الجاه والسلطان والنوال، رُفِعَت الأقلام وجفَّت الصُّحُف.





Source link

أترك تعليقا
مشاركة
مكتبه السلطان – كتاب مسموع نظرية الفستق كامل للكاتب فهد عامر الأحمدي audiobook
قصة حب مظلومة: كيف يمكن أن يتوطَّن الحب في قلوب مختلفة؟