عزة المؤمن ومكانته عند الله جل جلاله (خطبة)
عزة المؤمن ومكانته عند الله جل جلاله
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102] ﴿ يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ [النساء: 1]، ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 70، 71]، أما بعد:
فإنَّ أصدق الحديث كتابُ الله، وخيرَ الهديِ هديُ محمد صلى الله عليه وسلم، وشرَّ الأمورِ محدثاتُها، وكلَّ محدثةٍ بدعة، وكلَّ بدعة ضلالة، وكلَّ ضلالةٍ في النار.
أعاذني الله وإياكم وسائر المسلمين من النار، ومن كل عمل يُقرِّب إلى النار، اللهم آمين آمين يا رب العالمين.
إخواني في دين الله، أيها المؤمن، يا من رضيت بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيًّا ورسولًا، اعلم أنَّ لك حرمةً عند الله، ولك مكانةً عند الله، ولك محبة عند الله، لا يغرنَّك شياطين الإنس والجن الذين يظهرون عبر وسائل الإعلام من تشكيك في دينك، أنتِ أيتها المسلمة، لا تعتبري ولا تنظري إلى هؤلاء الذين يريدون منكِ أن تكوني متميعة، لا إسلام ولا غير إسلام، فلا حول ولا قوة إلا بالله.
المؤمن عبد الله مهما كان، ما دام معه هاتان الاثنتان، معه شهادة أن لا إله إلا الله، ومعه شهادة أن محمدًا رسول الله، هذا المؤمن مهما كان في مكانته وضيعًا ذليلًا، ومنظره قبيحًا أو ما شابه ذلك، فهو أعزُّ عند الله من كافر من منافق، من يهودي أو نصراني، مهما بلغ هذا في مكانته عند قومه من كُفَّار أو غيرهم، مهما بلغ لا يساوي عند الله جناح بعوضة، والمؤمن حرمته عند الله أعظم من حرمة المقدسات، فقد ثبت عَنْ عبدالله بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَطُوفُ بِالْكَعْبَةِ وَيَقُولُ: “مَرْحَبًا بِكِ مِنْ بَيْتٍ، مَا أَطْيَبَكِ وَأَطْيَبَ رِيحَكِ! مَا أَعْظَمَكِ وَأَعْظَمَ حُرْمَتَكِ! وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ؛ لَحُرْمَةُ الْمُؤْمِنِ أَعْظَمُ عِنْدَ اللهِ حُرْمَةً مِنْكِ”؛ أَيْ: مِنْ حُرْمَتِك أيتها الكعبة، فَإِنَّ حُرْمَةَ الْبَيْتِ إِنَّمَا هِيَ لِلْمُؤْمِنِينَ، قَالَ سبحانه وتَعَالَى: ﴿ إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ ﴾ [آل عمران: 96]؛ حاشية السندي على ابن ماجه.
قال صلى الله عليه وسلم: “إِنَّ اللهِ حَرَّمَ مِنْكِ وَاحِدَةً، وَحَرَّمَ مِنَ الْمُؤْمِنِ ثَلَاثًا: دَمَهُ، وَمَالَهُ، وَأَنَ يُظَنَّ بِهِ ظَنُّ السَّوْءِ“، وفي رواية: “وَأَنْ نَظُنَّ بِهِ إِلَّا خَيْرًا“؛ الحديث بزوائده: رواه الترمذي (2032)، وابن ماجه (3932)، والبيهقي في الشعب (6706)، الصَّحِيحَة: (3420).
أَيْ: حُرْمَة مَالِه، وَحُرْمَة دَمِه، وَحُرْمَة أَنْ نَظُنَّ بِهِ مَا عَدَا الْخَيْر حرام؛ حاشية السندي على سنن ابن ماجه (2/ 460).
حرام علينا هذه الأشياء؛ لذلك هذا المؤمن قد يساوي المائة أو المئات ممن خلا قلبه من لا إله إلا الله، خلا قلبه من شهادة الرسالة للنبي صلى الله عليه وسلم، عَن ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: “لَا نَعْلَمُ شَيْئًا خَيْرًا مِنْ مِائَةٍ مِثْلِهِ؛ إِلَّا الرَّجُلَ الْمُؤْمِنَ“؛ رواه أحمد (5882)، والطبراني في الأوسط (3500)، والجامع لابن وهب- ت مصطفى أبو الخير: (ص360) ح (253)، الصَّحِيحَة: (546).
قال السندي رحمه الله: أي لا يكون الواحد خيرًا من مائة من جنسه إلا المؤمن، فإن الواحد من نوع المؤمن قد يفوق على مائة منه في الخير، فيوجد في الواحد ما لا يوجد في مائة من خصال الخير؛ انظر حاشية مسند أحمد بتحقيق الأرناؤوط (11/ 135).
انظر إلى كافر مهما عمل من الأعمال ينقصه لا إله إلا الله، وهذه عند المؤمن، الكافر تنقصه شهادة أن محمدًا رسول الله، وهذه عند المؤمن، الكافر ينقصه الإيمان باليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين، الكافر تنقصه مئاتُ الصفاتِ الموجودةُ عند أدنى مؤمن من المؤمنين، قال سبحانه: ﴿ أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ﴾ [القلم: 35، 36].
إنَّ عُلُوَّ الْإسْلَام وعلوَّ أهله على غيرهم من الأمم، معروف في دين الإسلام، فالعبد المؤمن ولو كان من عامة الناس وأدناهم مقدَّمٌ على السادةِ من غير المؤمنين، وإليكم مِثالًا من عهد النبي صلى الله عليه وسلم، رجل صحابي، وهو (عَائِذُ بْنُ عَمْرٍو الْمُزَنِيِّ)، كان ممن بايع تحت الشجرة، وثبت ذلك في البخاري، وسكن البصرة، ومات في إمارة ابن زياد؛ انظر الإصابة في معرفة الصحابة (ج2/ ص92)، وهو إنسان من عموم الصحابة رضي الله عنه، وأما أبو سفيان، قبل أن يسلم، كان كبيرًا ورئيسًا في قومه، فعَنْ عَائِذِ بْنِ عَمْرٍو الْمُزَنِيِّ رضي الله عنه أَنَّهُ جَاءَ يَوْمَ الْفَتْحِ مَعَ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ، قبل أن يسلم، وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَوْلَهُ أَصْحَابُهُ، فَقَالُوا: (هَذَا أَبُو سُفْيَانَ، وَعَائِذُ بْنُ عَمْرٍو)، فاعترض رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذه المقالة، وعلى هذه الجملة؛ لأَنَّ لِلْمبْدَأ بِهِ فِي الذِّكْرِ تَأْثِيرًا فِي الْفَضْلِ لِمَا يُفِيدُهُ مِنَ الِاهْتِمَامِ؛ انظر فتح الباري بشرح البخاري- ط السلفية: (3/ 220). (فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: “هَذَا عَائِذُ بْنُ عَمْرٍو وَأَبُو سُفْيَانَ، الْإِسْلَامُ أَعَزُّ مِنْ ذَلِكَ، الْإِسْلَامُ يَعْلُو وَلَا يُعْلَى“؛ رواه البيهقي (11935)، وحسنه الألباني في الإرواء: (1268)، وصَحِيح الْجَامِع: (2778).
قال سبحانه: ﴿ أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ ﴾ [ص: 28].
الْمُؤمِنُ عَزِيزٌ عَلَى الله، غالٍ عند الله، ولو كان من عامَّة الناس، ولوكان عبدًا دميمًا قبيحًا، فهو أعزُّ عند الله من كافر جميل، أو مشرك حسن المنظر، أو نصراني أو يهودي، مهما كانت منزلته، ومهما كان مقامه رفيعًا عاليًا عند الناس، وفي وسائل الإعلام.
قال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لرَجلٍ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ اسْمُهُ زَاهِرٌ وقد احتضنه من خلفه وهو لا يشعر: “مَنْ يَشْتَرِي الْعَبْدَ؟!” يمازحه صلى الله عليه وسلم -(وَكَانَ رَجُلًا دَمِيمًا)؛ أي: قبيحًا- هكذا خلقه الله، فَقَالَ: (يَا رَسُولَ اللهِ، إِذًا وَاللهِ تَجِدُنِي كَاسِدًا)؛ أي: رخيصًا، لا يشتريني أحد، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: “لَكِنْ أَنْتَ عِنْدَ اللهِ لَسْتَ بِكَاسِدٍ“، وفي رواية: “بَلْأَنْتَ عِنْدَ اللهِ غَالٍ“؛ رواه أحمد (12648)، وصححه الألباني في مختصر الشمائل: (204).
قال سبحانه: ﴿ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ﴾ [الجاثية: 21].
أي: أم حسب المسيئون المكثرون من الذنوب المقصِّرون في حقوق ربهم -يجلس أمام الشاشة أو في بيته، وينشر على الناس أكاذيبَه وأضاليلَه ضدَّ الإسلام والمسلمين، ويدعي أنه ينصر القرآن أو نحو ذلك، أحسِب هؤلاء- ﴿ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ﴾ [الجاثية: 21]، بأن قاموا بحقوق ربهم، واجتنبوا مساخطه، ولم يزالوا مؤثرين رضاه على هوى أنفسهم؟ أي: أحسبوا أن يكونوا سَوَاءً في الدنيا والآخرة؟
ساء ما ظنوا وحسبوا، وساء ما حكموا به سواء، فإنه حكم يخالف حكمة أحكم الحاكمين سبحانه، وخير العادلين جل جلاله، ويناقض العقول السليمة والفطر المستقيمة، ويضاد ما نزلت به الكتب السماوية، وأخبرت به الرسل، بل الحكم الواقع القطعي أن المؤمنين العاملين الصالحات لهم النصر والفلاح، والفوز والسعادة والثواب في العاجل والآجل، كلٌّ على قدر إحسانه، وأن المسيئين لهم الغضب والإهانة، والعذاب والشقاء في الدنيا والآخرة؛ ملخص من تفسير السعدي (ص: 777).
وأخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد في تفسير قوله: ﴿ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ ﴾ [الجاثية: 21]، قال: المؤمن في الدنيا والآخرة مؤمن، والكافر في الدنيا والآخرة كافر؛ تفسير الطبري جامع البيان- ط، دار التربية والتراث: (22/ 73)، الصحيح المسبور من التفسير بالمأثور (4/ 325).
يَقُولُ سبحانه وتَعَالَى: لَا يَسْتَوِي الْمُؤْمِنُونَ وَالْكَافِرُونَ، كَمَا قَالَ سبحانه: ﴿ لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ ﴾ [الحشر: 20]، وَقَالَ هَا هُنَا: ﴿ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ ﴾ [الجاثية: 21]؛ أَيْ: عَمِلُوهَا وَكَسَبُوهَا ﴿ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ ﴾ [الجاثية: 21]؛ أَيْ: نُسَاوِيهِمْ بِهِمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ! المساواة غير صحيحة ﴿ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ﴾ [الجاثية: 21]؛ أَيْ: سَاءَ مَا ظَنُّوا بِنَا -أي: بالله عز وجل هذا الحكم الذي يكون في الدنيا وفي الآخرة- وَبِعَدْلِنَا أَنْ نُسَاوي بَيْنَ الْأَبْرَارِ وَالْفُجَّارِ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ، وَفِي هَذِهِ الدَّارِ؛ تفسير ابن كثير، ت سلامة (7/ 267، 268) بتصرف.
ألا واعلموا أنَّ طِيبَ الْقَلْبِ مِنَ الْإيمَان، وخبثَ القلب من الفجور والنفاق، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: “الْمُؤْمِنُ غِرٌّ كَرِيمٌ”، والمنافق “وَالْفَاجِرُ خِبٌّ لَئِيمٌ“؛ الترمذي (1964)، وأبو داود (د) (4790)، صَحِيح الْجَامِع: (6653)، الصَّحِيحَة: (935).
(الْمُؤْمِنُ غِرٌّ كَرِيمٌ)؛ أَيْ: لَيْسَ عنده مَكْرٌ ولا خداعٌ؛ بل هُوَ يَنْخَدِعُ لِانْقِيَادِهِ وَلِينِهِ، يعني: أنَّ الْمُؤْمِنَ الْمَحْمُودَ الممدوح؛ مِنْ طَبْعِهِ الْغِرَارَةُ، وَقِلَّةُ الْفِطْنَةِ لِلشَّرِّ، وَتَرْكُ الْبَحْثِ عَنْهُ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْهُ جَهْلًا، وَلَكِنَّهُ كَرَمٌ وَحُسْنُ خُلُقٍ، فَهُوَ يَنْخَدِعُ لِسَلَامَةِ صَدْرِهِ، وَحُسْنِ ظَنِّهِ.
(وَالْفَاجِرُ خِبٌّ لَئِيمٌ)؛ أَيْ: بَخِيلٌ، لَجُوجٌ، سَيِّئُ الْخُلُقِ. والخِبُّ: هو الخَدَّاعُ، السَّاعي بين الناس بالشر والفساد.
قال أبو تمام:
ليس الغبيُّ بسيدٍ في قومِه لكنَّ سيِّدَ قومِه المُتغابي |
وقال دِعْبِل الخزاعي:
تخالُ أحيانًا به غفلةٌ من كرَم النفس، وما أَعلَمَه |
أي: ليس عنده من الغفلة شيء، لكن يظنه الناس أنه غافل.
فشتان بين الكفران والإيمان، وشتان بين الطاعة والعصيان، وشتان بين الأشواك والأعناب، عَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: “كَمَا لَا يُجْتَنَى مِنَ الشَّوْكِ الْعِنَبُ، كَذَلِكَ لَا يَنْزِلُ الْفُجَّارُ مَنَازِلَ الْأَبْرَارِ، فَاسْلُكُوا أَيَّ طَرِيقٍ شِئْتُمْ، فَأَيُّ طَرِيقٍ سَلَكْتُمْ؛ وَرَدْتُمْ عَلَى أَهْلِهِ“، أبو نعيم (10/ 31)، وابن عساكر (67/ 260)، صَحِيح الْجَامِع: (4575)، الصَّحِيحَة: (2046).
قال سبحانه: ﴿ أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ * أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ ﴾ [السجدة: 18 – 20].
﴿ أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا ﴾ قد عَمُرَ قلبُه بالإيمان، وانقادت جوارحُه لشرائع الرحمن، واقتضى إيمانُه آثارَه وموجباتِه؛ مِن ترْكِ مساخطِ الله، التي يضرُّ وجودها بالإيمان.
هل هذا ﴿ كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا ﴾ قد خرُب قلبُه وتعطَّل من الإيمان، فلم يكن فيه وازع ديني، فأسرعت جوارحُه بموجبات الجهل والظلم، من كلِّ معصية وإثم، وخرج بفسقه عن طاعة الله.
أفيستوي هذان الشخصان؟!
وما أكثر من نراهم يتناظران، رجل طيِّبٌ مسلمٌ يدافعُ عن دين الله، وعن القرآن والسنة، وآخر يريد أن يهدم، هل يستويان؟ ﴿ لا يَسْتَوُونَ ﴾ عقلًا وشرعًا، كما لا يستوي الليل والنهار، ولا الضياءُ ولا الظلمة، وكذلك لا يستوي جزاؤهما في الآخرة.
﴿ أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ﴾، من فروض ونوافل ﴿ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى ﴾؛ أي: الجناتُ التي هي مأوى اللذات، ومعدنُ الخيرات، ومحلُّ الأفراح، ونعيمُ القلوبِ والنفوسِ والأرواح، ومحلُّ الخلود، وجوارُ الملكِ المعبود، والتمتعُ بقربِه، والنظرُ إلى وجهِه وسَماعُ خطابه.
هذا خير ﴿ نُزُلًا ﴾ لهم؛ أي: ضيافةً وقِرًى، ﴿ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ فأعمالُهم التي تفضَّلَ الله بها عليهم هي التي أوصلتهم لتلك المنازلِ الغالية العالية التي لا يمكنُ التوصُّلُ إليها ببذل الأموال، ولا بالجنود والخدم، ولا بالأولاد؛ بل ولا بالنفوس والأرواح، لا يصل إليها ولا يتقرَّب إليها بشيْءٍ أصلًا سوى الإيمانِ والعمل الصالح.
﴿ وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ ﴾؛ أي: مقرُّهم ومحلُّ خلودِهم النارُ التي جمَعَت كلَّ عذابٍ وشقاء، ولا يُفَتَّرُ عنهم العقاب ساعة.
﴿ كُلَّمَا أَرَادُوا ﴾ نفحة مرَّت عليهم في النار، وكلما فَكَّروا ﴿ أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا ﴾، فكلما حدَّثَتْهم إرادتُهم بالخروج؛ لبلوغ العذاب منهم كل مبلغ، رُدُّوا إليها، فذهب عنهم روحُ ورائحة ذلك الفرج، واشتدَّ عليهم الكرب.
﴿ وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ ﴾، تكذبون بهذا الدين، وتشكون وتشككون فيما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، وفتحتم لذلك قنوات، وأنفقتم في سبيل ذلك مئات الألوف من الدولارات، فهذا عذاب النار ينتظركم، والذي يكونُ فيه مقرُّكم ومأواكم؛ بتصرُّف من تفسير السعدي (ص: 655، 656).
عافانا الله وإياكم من كل شر وسوء، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الآخرة
الحمد لله، والصلاةُ والسلامُ على رسول اللهِ، وعلى آلِه وصحبِه ومن اهتدى بهداه إلى يوم الدين، أما بعد:
عبد الله المؤمن ليس معصومًا، فإنَّ عبدالله المؤمنَ بشرٌ، يهمُّ بالحسنة وقد يهمُّ بالسيئة؛ بل هو يخطئ ويصيب، ويحسن ويُسيء، فهو ليس ملكًا مقرَّبًا، ولا نبيًّا رسولًا، ومع ذلك فالله خالقه يحبُّه، والله رازقه يعزُّه، ويرحمه ويعفو عنه ويكرمُه، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: “قَالَتْ الْمَلَائِكَةُ: رَبِّ ذَاكَ عَبْدُكَ يُرِيدُ أَنْ يَعْمَلَ سَيِّئَةً”، يبلغون الله أنه يوجد عبد يهم بسيئة، ولعله أنا أو أنت، من يدري؟ يهم بسيئة، “فَقَالَ اللهُ تَعَالَى: إِذَا أَرَادَ عَبْدِي أَنْ يَعْمَلَ سَيِّئَةً؛ فلَا تَكْتُبُوهَا عَلَيْهِ حَتَّى يَعْمَلَهَا، فَأَنَا أَغْفِرُهَا لَهُ مَا لَمْ يَعْمَلْهَا، فَإِنْ عَمِلَهَا؛ فَاكْتُبُوهَا بِمِثْلِهَا، وَإِنْ تَرَكَهَا مِنْ أَجْلِي، فَاكْتُبُوهَا لَهُ حَسَنَةً”.
وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَعْمَلَ حَسَنَةً فَلَمْ يَعْمَلْهَا؛ فَاكْتُبُوهَا لَهُ حَسَنَةً، فَإِنْ عَمِلَهَا؛ فَاكْتُبُوهَا لَهُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إلى سَبْعِ مِائَةِ ضِعْفٍ“؛ الحديث بزوائده: البخاري ومسلم وأحمد، (خ) (7501)، (م) (128)، (129)، (حم) (8166).
فشتان بين الكافر الذي لا يحمد الله ولا يشكره، ولا يعبده ولا يذكره، وبين عبدالله المؤمن، الذي يذكر الله على كل أحيانه، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: “إِنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ يَقُولُ: إِنَّ عَبْدِيَ الْمُؤْمِنَ عِنْدِي بِمَنْزِلَةِ كُلِّ خَيْر، يَحْمَدُنِي وَأَنَا أَنْزِعُ نَفْسَهُ مِنْ بَيْنِ جَنْبَيْهِ“؛ رواه أحمد (8492)، (8731)، والبيهقي في الشعب، (4494)، صحيح الجامع: (1910)، الصَّحِيحَة تحت حديث: (1632)، وقال شعيب الأرناؤوط: إسناده جيد.
يحمد الله في السراء والضراء، في شدة الألم، وعند نزع الروح، يحمد الله على كل حال، فهل يستوي هو وذاك الكافر؟ لا والله؛ لذلك قال سبحانه: ﴿ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ ﴾ [الشورى: 7].
فيوم القيامة ثقيل على الكافرين، قال سبحانه: ﴿ إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا ﴾ [الإنسان: 27]، وهو عسير عليهم وصعب وشاق، قال سبحانه: ﴿ الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا ﴾ [الفرقان: 26].
أما على المؤمنين فهو خفيف يسير، قال صلى الله عليه وسلم: “يَوْمُ الْقِيَامَةِ” – الذي هو خمسون ألف سنة- “كَقَدْرِ مَا بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ“؛ رواه الحاكم (283)، انظر الصَّحِيحَة: (2456).
كقدر ما بين الظهر والعصر، يعني أحيانًا نصف يوم على بعض الناس، للحساب والمساءلة، وأحيانًا ربع يوم ما بين الظهر والعصر، قال الألباني رحمه الله: وهذا يدل على خفة ذلك اليوم على المؤمنين.
ويوم القيامة يكون أهل النار في كرب وضيق، وشدة، والمؤمنون؛ كما قال الله عنهم: ﴿ وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ ﴾ [النمل: 89]، وعَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يُبْعَثُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ”، يعني: كلُّهم في صعيد واحد، والشمس تقترب منهم حتى تكون قدر ميل، قال: “فَأَكُونُ أَنَا وَأُمَّتِي عَلَى تَلٍّ”؛ أي: على مكان مرتفع بعيد عن هذه الكروب والشدة والضيق، “وَيَكْسُونِي رَبِّي تَبَارَكَ وَتَعَالَى حُلَّةً خَضْرَاءَ، ثُمَّ يُؤْذَنُ لِي، فَأَقُولُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ أَقُولَ فَذَاكَ الْمَقَامُ الْمَحْمُودُ»؛ أحمد (15783)، وابن حبان (6479)، الصحيحة: (237).
وهناك يحشر الناس في حرٍّ شديد، والمؤمنون في ظلٍّ العرشِ، والسماء تطِشُّ عليهم؛ أي: تمطر عليهم، فقط على المؤمنين الذين تمسكوا بإيمانهم حتى الممات، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: “يُبْعَثُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاءُ تَطِشُّ عَلَيْهِمْ“؛ رواه أحمد (13814)، وقال الشيخ شعيب الأرناؤوط: إسناده حسن. أَيْ: تُمْطِر مطرًا خفيفًا.
اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، اللهم اغفر لنا أجمعين، اللهم كن معنا ولا تكن علينا، اللهم أيدنا ولا تخذلنا، اللهم وفقنا لما تحبه وترضاه يا رب العالمين.
اللهم يا رب العالمين، أنت القوي ونحن الضعفاء، فقوِّنا يا رب العالمين، وأنت العزيز ونحن الأذلاء، فأعزنا بين الأقوام يا رب العالمين.
اللهم انصر بنا دينك يا رب العالمين، اللهم أنصر بنا توحيدك يا رب العالمين، اللهم اجعلنا من عبادك المؤمنين الموحدين، ولا تجعلنا من المشركين الكافرين، اللهم أيدنا ولا تخذلنا، وانصرنا ولا تنصر علينا، برحمتك يا رب العالمين.
اللهمَّ صلِّ وسلم وبارك على نبينا محمَّد، وعلى وآله وصحبه أجمعين، ﴿ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ ﴾ [العنكبوت: 45].