خطبة: الابتلاء بموت الحبيب


خطبة: الابتلاء بموت الحبيب

 

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهدِهِ الله فلا مضلَّ له، ومن يضلل فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا؛ ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102]، وقال تعالى: ﴿ وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ ﴾ [الأنعام: 61]؛ أما بعد يا عباد الله:

فالموت يفرِّق بين الأحباب والأصحاب، ويباعد بين الأقرباء والزملاء، ويَحُول بين القرناء، ويهدم اللذات، ويقطع الصلات، ويُيتم البنين والبناتِ، ويُشتِّت الجماعات؛ قال تعالى: ﴿ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ ﴾ [الأنبياء: 35].

 

الموت – يا عباد الله – من أعظم المصائب التي تحُلُّ بالإنسان، وقد سماه الله تعالى في كتابه الكريم مصيبة؛ فقال تعالى: ﴿ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ ﴾ [المائدة: 106]؛ وذلك لأنه تبديل من حال إلى حال، وانتقال من دار إلى دار، وهو المصيبة العظمى، والرَّزِيَّة الكبرى، وأعظم منه الغفلة عنه، والإعراض عن ذكره، وقلة التفكير فيه، وعدم الاستعداد له.

 

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ((أتَتِ امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم بصبيٍّ لها، فقالت: يا نبي الله، ادعُ الله له، فلقد دفنتُ ثلاثةً، قال صلى الله عليه وسلم: دفنتِ ثلاثة؟ مُسْتَعْظِمًا أمرها صلى الله عليه وسلم، قالت: نعم، قال: لقد احتظَرْتِ بحِظارٍ شديد من النار))؛ رواه مسلم؛ أي: لقد احتميت بحمًى عظيم من النار، فما أعظم الأجر! وما أكمل الثواب! وما أجدر أن يستعذب العذاب في طلب هذا الثواب!

 

روى الإمام أحمد من حديث معاوية بن قرة، عن أبيه، ((أنه كان رجل يأتي النبي صلى الله عليه وسلم ومعه ابن له، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أتحبه؟ فقال: يا رسول الله، أحبك الله كما أحبه، فتفقَّده النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ما فعل ابن فلان؟ فقالوا: يا رسول الله، مات، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبيه: أمَا تحب أن تأتي بابًا من أبواب الجنة إلا وجدته عليه ينتظرك؟ فقال رجل: يا رسول الله، أله خاصة أم لكلنا؟ فقال صلى الله عليه وسلم: بل لكلكم))؛ [رواه أحمد، وصححه الألباني].

 

وعن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((يقول الله عز وجل: ما لعبدي المؤمن عندي جزاء، إذا قبضتُ صفيَّه من أهل الدنيا، ثم احتسبه، إلا الجنة))؛ [رواه البخاري].

 

يا عباد الله، إن مما يُسلِّي المصاب، ويُذهِب همَّه، ويُصبِّر نفسه، ويُرضِي قلبه، ويُعينه على مُصابه، ويخفف آلامه – تذكُّر موت النبي صلى الله عليه وسلم، فما أُصيبت الأمة بمصيبة أعظم، ولا أجَلَّ من مصيبة فَقْدِ النبي صلى الله عليه وسلم، وانقطاع نزول الوحي، فإذا علمت هذا، هانت عليك كل مصيبة، وسكنت نفسك، واطمأنت لكل بليَّةٍ وخَطْبٍ.

 

قال صلى الله عليه وسلم: ((إذا أُصيب أحدكم بمصيبة، فليذكر مصيبته بي؛ فإنها من أعظم المصائب))؛ [صححه الألباني].

 

نفعني الله وإياكم بهدي نبيه، وبسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، ولسائر المسلمين والمسلمات، من كل خطيئة وإثم، فاستغفروه وتوبوا إليه؛ إن ربي لغفور رحيم.

 

الخطبة الثانية

الحمد لله، خلق فسوَّى، وقدَّر فهدى، وصلى الله وسلم على نبي الرحمة والهدى، وعلى آله وصحبه ومن اقتفى؛ قال الله تعالى: ﴿ وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ ﴾ [آل عمران: 145]؛ أما بعد يا عباد الله:

فرسالتي إلى كل مَن فَقَدَ حبيبًا أو قريبًا أو عزيزًا، أعْظَمَ الله أجوركم، وغفر الله لموتاكم، أذكركم أن التكيف مع فقد الأحبة وثمرات الأفئدة أمر مستطاع بمشيئة الله، إذا اتبعنا بعض الطرق؛ ومنها:

أولًا: تذكَّروا أن الأبناء والبنات هم زينة الحياة الدنيا، وموت أحدهم قد يعوِّضه في كثير من الأحيان ولادة طفل آخر.

 

ثانيًا: اشغل دقائقَ وقتك أكثر من أي وقت مضى بالعمل الصالح، أو بحضور بعض البرامج التربوية أو التدريبية، والاستفادة من طاقتك بما هو مفيد.

 

ثالثًا: يا عباد الله: عليك بالاختلاط بالأصدقاء والزملاء، والإخوة والأقرباء، ومن الممكن التنفيس لمن تثق بهم.

 

رابعًا: قراءة بعض الكتب والمقالات، وسماع بعض المقاطع التي تتحدث عن كيفية التعامل مع الحزن، وفقد الأحباب.

 

خامسًا: القرب من الله أكثر، وبثُّ أحزانك وآلامك في صلاتك وخلواتك؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ ﴾ [يوسف: 86]، والإكثار من قراءة القرآن العظيم، والإلحاح على الله بالدعاء أن يربِطَ على قلبك، ويثبت فؤادك.

 

هذا، وصلوا وسلموا – عباد الله – على نبيكم؛ استجابة لأمر ربكم: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 56]، اللهم صلِّ وسلم على محمد، وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم.

 

اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين، وأعْلِ بفضلك كلمة الحق والدين، اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، وأيِّد بالحق إمامنا ووليَّ أمرنا خادم الحرمين الشريفين، اللهم وفِّقه لِما تحب وترضى، وخُذْ بناصيته للبر والتقوى، اللهم وفِّقه ووليَّ عهده إلى ما فيه صلاح البلاد والعباد، وإلى ما فيه الخير للإسلام والمسلمين، اللهم ارزقهما البطانة الصالحة، يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام، يا ذا الطَّول والإنعام، اللهم أصلح أحوال المسلمين في كل مكان، واحقِنْ دماءهم، يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام.

 

اللهم احفظ على هذه البلاد عقيدتها، وقيادتها، وأمنها، ورخاءها واستقرارها، وسائر بلاد المسلمين، اللهم اجعلها دائمًا حائزة على الخيرات والبركات، سالمة من الشرور والآفات، اللهم اصرف عنا شر الأشرار، وكيد الفجار، وشر طوارق الليل والنهار، رُدَّ عنا كيد الكائدين، وعدوان المعتدين، ومكر الماكرين، وحقد الحاقدين، وحسد الحاسدين، حسبنا الله ونعم الوكيل.

 

اللهم أبْرِمْ لأمة الإسلام أمرًا رشدًا، يُعَزُّ فيه أهل طاعتك، ويُهدى فيه أهل معصيتك، ويُؤمر فيه بالمعروف، ويُنهى فيه عن المنكر، يا سميع الدعاء.

اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، وألِّف ذات بينهم، وأصلح قلوبهم وأعمالهم، واجمعهم يا حي يا قيوم على العطاء والسنة، يا ذا العطاء والفضل والمنة.

 

اللهم انصر جنودنا، ورجال أمننا، المرابطين على ثغورنا وحدودنا، اللهم تقبل شهداءهم، اللهم اشفِ مرضاهم، وعافِ جرحاهم، وردَّهم سالمين غانمين.

 

﴿ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾ [البقرة: 201]، ﴿ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ [البقرة: 127]، ﴿ وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴾ [البقرة: 128]، واغفر لنا ولوالدينا ووالديهم، والمسلمين والمسلمات، إنك سميع قريب مجيب الدعوات، ﴿ سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الصافات: 180 – 182].





Source link

أترك تعليقا
مشاركة
تحميل كتاب محمد بن سليمان الروداني من أعلام المغرب في القرن الحادي عشر الهجري pdf
تحميل كتاب إدارة التغيير ؛ الاستراتيجية الأمريكية الشاملة أنموذجاً pdf