أسرار الحج (خطبة)


أسرار الحج

 

الخطبة الأولى

الحمدُ لله، شرع الحجَّ لعباده رحمةً بهم وإسعادًا، نحمده تعالى ونشكره، جعل المناسكَ مورِدًا للحسنات، ومنهلًا وازديادًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له شهادةَ مَن لاذ به خضوعًا لعظمتِه وانقيادًا، وأمله لبلوغ ذُرى العلياء توفيقًا وسدادًا، وأشهد أنَّ نبينا محمدًا عبد الله ورسوله خير من حجَّ البيتَ الحرامَ، واتَّخذ التقوى زادًا، صلى الله عليه وعلى آله أطهر الورَى سِيَرًا، وأعرقِهم أمجادًا، وصحبِه أبرِّ الأمة قلوبًا، وأشدِّهم تآلفًا ووِدادًا، والتابعين ومن تبعهم، وترسَّم خطاهم بصدقٍ وإخلاص يرجو صلاحًا ورشادًا، وسلِّم تسليمًا كثيرًا، أما بعد:

فيا عباد الله، أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل، فتقوى الله هي طريقُ النجاة والسلامة، وسبيل الفوز والكرامة، ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ ‌يَجْعَلْ ‌لَكُمْ ‌فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ﴾ [الأنفال: 29].

 

عباد الله، يقول الله تبارك وتعالى: ﴿ وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ ‌بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ ﴾ [الحج: 27]، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما فرغ إبراهيم من بناء البيت قيل له: أذِّن في الناس بالحج، قال: يا رب، وما يبلغُ صوتي؟ قال: أذِّن وعليَّ البلاغ، فنادى إبراهيم: أيها الناس، إنَّ ربكم قد اتخذ بيتًا فحجُّوه، فتواضعَت الجبال حتى بلغ الصوت أرجاء الأرض، وأسمع من بالأرحام والأصلاب، وأجابه كل شيء سمعه من حجر أو مدر، ومن كتَب الله أن يحج إلى يوم القيامة.

قال سعيد بن جبير: وقرت في قلب كلِّ ذكر أو أنثى.

وقال مجاهد: من حجَّ اليوم فهو ممن أجاب إبراهيم يومئذٍ.

 

لقد نادى بها الخليل عليه السلام، وبلَّغها ربُّ العالمين كل سمع وقلب، فها هو الوعد يتحقَّق منذ إبراهيم عليه السلام وإلى اليوم، وسيظل حتى يُظِل الناس زمان لا كعبة فيه، فعند الحاكم والطبراني، وصححه الألباني من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((استمتعوا من هذا البيت -يعني: الكعبة- فإنه قد هدم مرتين، ويرفع في الثالثة))؛ أي: يهدم فلا يبنى إلى قيام الساعة، إذا أظل زمانٌ لا كعبة فيه، ينقضها ذو السويقتين رجلٌ من الحبشة حجرًا حجرًا، فلا تبنى بعد ذلك.

 

﴿ وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ ‌بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا ﴾؛ أي: قلب لا يشتاق إلى تلبية النداء وإجابة الدعاء، والانضمام إلى وفد ملك الأرض والسماء؟! وعن الفضل رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من أراد الحج فليتعجَّل، فإنه قد يمرض المريض، وتضل الضالة، وتعرض الحاجة))؛ رواه أحمد وغيره من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.

 

وللحج عباد الله حكمٌ وأسرارٌ، ودروسٌ وعِبَر، فَمِن تِلكَ المعاني الجميلةِ التي يجِبُ الإِيمانُ بها، وَتَعمِيقُها في القُلُوبِ؛ لِتَتَعَلَّقَ بِعِبَادَةِ عَلَّامِ الغُيُوبِ: أَنَّهُ سُبحانَه لم يَشرَعْ لِعِبَادِهِ أَيَّ عِبَادَةٍ كانت لِيُحرِجَهُم أَو يُضَيِّقَ عَلَيهِم، أَو لِيُكَلِّفَهُم مَا لا يُطِيقُونَ أَو يُثقِلَ عَلَيهِم بِمَا لَيسَ في وُسعِهِمُ القِيَامُ بِهِ؛ وَإِنما شَرَعَ لهم ما شَرَعَ لِحِكَمٍ عَظِيمَةٍ وَأَسرَارٍ جَلِيلَةٍ، وَمَنَافِعَ مُتَعَدِّدَةٍ؛ مِنهَا مَا هُوَ في حَيَاتِهِم الدُّنيَا، في أَبدَانِهِم وَقُلُوبِهِم وَأَنفُسِهِم، وفي مجتَمَعَاتِهِم وَبُلدَانِهِم وَعِلاقَاتِهِم، وَمِنهَا -بَل هُوَ أَهَمُّهَا وَأَعظَمُهَا- مَا هُوَ في الآخِرَةِ، ممَّا أَعَدَّهُ لهم مِنَ الفَوزِ الكَبِيرِ، وَالنَّعِيمِ المُقِيمِ، قال سُبحَانَهُ: ﴿ يُرِيدُ اللَّهُ ‌بِكُمُ ‌الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ﴾ [البقرة: 185]، وقال جل وعلا: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ‌ارْكَعُوا ‌وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [الحج: 77].

 

وَإِنَّ لِلحَجِّ مِنَ الحِكَمِ وَالأَسرَارِ وَالمَنَافِعِ النَّصِيبَ الكَبِيرَ، وَالقَدرَ العَظِيمَ، قال جل وعلا: ﴿ وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ ‌يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ ﴾ [الحج: 27-28]، قال ابنُ عَبَّاسٍ رضي اللهُ عنهما في تَفسِيرِ هَذِهِ الآيَةِ: (مَنَافِعُ الدُّنيَا وَالآخِرَة، أَمَّا مَنَافِعُ الآخِرَةِ فَرِضوَانُ اللهِ جل وعلا، وَأَمَّا مَنَافِعُ الدُّنيَا فَمَا يُصِيبُونَ مِن مَنَافِعِ البُدنِ وَالذَّبَائِحِ وَالتِّجَارَاتِ).

 

وَمِن مَعَاني الحَجِّ السَّامِيَةِ وَدُرُوسُهُ العَظِيمَةُ مَا وَرَدَ في رَمزِهِ وَشِعَارِهِ؛ أَعني: التَّلبِيَةَ التي يُرَدِّدُها الحَاجُّ مِن حِين إِحرَامِهِ إلى أَن يَرمِيَ جمرَةَ العَقَبَةَ، وَتَلهَجُ بها الأَلسِنَةُ في مَوَاقِفَ كَثِيرَةٍ، وَلا تَمَلُّ مِن تَردَادِها، وَتَرطِيبِ الأَفوَاهِ بها، وفي هَذِهِ التَّلبِيَةِ النَّبَوَيِّةِ تَذكِيرٌ لِلأُمَّةِ بِأَعظَمِ مَا يجِبُ أَن تَهتَمَّ بِهِ وَتُحَافِظَ عَلَيهِ، وَتَغرِسَهُ في النُّفُوسِ، ذَلِكُم هُوَ تَحقِيقُ التَّوحِيدِ للهِ، تَحقِيقُ الغَايَةِ القُصوَى مِن خَلقِ الإِنسَانِ وَاستِخلافِهِ في هَذِهِ الأَرضِ، ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ ‌إِلَّا ‌لِيَعْبُدُونِ ﴾ [الذاريات: 56]، ((لَبَّيكَ اللَّهُمَّ لَبَّيكَ، لَبَّيكَ لا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيكَ، إِنَّ الحَمدَ وَالنِّعمَةَ لَكَ وَالمُلكَ، لا شَرِيكَ لَكَ))، استِجَابَةٌ للهِ بَعدَ استِجَابَةٍ، وَتَبَرُّؤٌ مِنَ الشِّركِ، وَإِقرَارٌ بِالرُّبُوبِيَّةِ وَالأُلُوهِيَّةِ، وَحَمدٌ لَهُ عَلَى نِعمَةِ الهِدَايَةِ لِلإِسلامِ، قال جل وعلا: ﴿ وَأَتِمُّوا ‌الْحَجَّ ‌وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ ﴾ [البقرة: 196]، وقال عليه الصلاةُ والسَّلامُ: ((خَيرُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَومِ عَرَفَةَ، وَخَيرُ مَا قُلتُ أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِن قَبلِي: لا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلكُ وَلَهُ الحَمدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ)).

 

إِنَّهُ تَذكِيرٌ لِلأُمَّةِ جمِيعًا أَن يَستَحضِرُوا مَا عَقَدُوا عَلَيهِ قُلُوبَهُم مِن تَوحِيدِ اللهِ رَبِّ العَالمينَ، إِنَّهُ تَوجِيهٌ لهم أَن يجعَلُوا حَجَّهُم للهِ وَحدَهُ، ويُخلِصُوا لَهُ العَمَلَ دُونَ سِوَاهُ، وَحِينَ يَكُونُ مِنَ المُسلِمِينَ يَقِينٌ بِذَلِكَ، وَتَمَسُّكٌ بِهِ فَلْيبشِرُوا بِالأَمنِ وَالهِدَايَةِ وَالتَّوفِيقِ، ﴿ الَّذِينَ آمَنُوا ‌وَلَمْ ‌يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ ﴾ [الأنعام: 82].

 

“لبيك اللهم لبيك” لبى بها الأنبياء من قبل، ففي صحيح مسلم عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم مر في حجه بوادي الأزرق فقال: ((أي وادٍ هذا؟)) قالوا: هذا وادي الأزرق، قال: ((كأني أنظر إلى موسى عليه الصلاة والسلام هابطًا من الثنية، له جوار إلى الله تعالى بالتلبية))، ثم أتى على ثنية يقال لها: ثنية هَرْشى، فقال: ((أي ثنية هذه؟)) قالوا: ثنية هَرْشى، قال: ((كأني أنظر إلى يونس بن متى عليه الصلاة والسلام على ناقة حمراء جعدة -أي: مكتنزةٌ لحمًا- عليه جبة من صوف، خطام ناقته خُلْبة- أي: من الليف- وهو يلبي)).

 

عباد الله، ومن دروس الحج أن تعلم الأمة وتتذكَّر وأن تستشعرَ وتستيقن أنه لا سعادة ولا نجاح في هذه الحياة والآخرة ولا توفيقَ ولا سدادَ إلا باتباع النبي صلى الله عليه وسلم، والسير على نهجه في الاعتقاد والأعمال، في الحكم والتَّحاكم، في الأخلاق والسلوك، وَقَد كَانَ صلى الله عليه وسلم في كُلِّ خطوَةٍ في حَجَّتِهِ يُؤَصِّلُ هَذَا المَعنى الكَبِيرَ في نُفُوسِ المُسلِمِينَ، وَيَغرِسُهُ في قُلُوبِهِم ويُرَسِّخُهُ، حَيثُ كَانَ يَقُولُ عِندَ كُلِّ مَنْسَكٍ مِن مَنَاسِكِ الحَجِّ: وفي هذا الصدَد يقول سيدنا ونبيُّنا صلى الله عليه وسلم عند كل منسك من مناسك الحج: ((خذوا عني مناسككم))؛ أخرجه مسلم من حديث جابر رضي الله عنهما.

 

وَهُوَ الذي قَد قَالَ: ((مَن عَمِلَ عَمَلًا لَيسَ عَلَيهِ أَمرُنَا فَهُوَ رَدٌّ))، فَمَا أَسعَدَ الأُمَّةَ حِينَ تَقتَدِي بِه وَتَمتَثِلُ أَمرَهُ! مَا أَعظَمَ بَرَكَتَهَا حِينَ تَتَأَسَّى بِهِ وَتَسِيرُ عَلى نَهجِهِ وطَريقَتِهِ! ﴿ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ ‌فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾ [الحشر: 7]، ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ‌أَطِيعُوا ‌اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ ﴾ [محمد: 33].

 

وَمِنَ الدُّرُوسِ العَظِيمَةِ في الحَجِّ لُزُومُ الاعتِدَالِ وَالتَّوَسُّط في الأُمُورِ كُلِّهَا، وَمُجَانَبَةُ الغُلُوِّ أَوِ الجَفَاءِ، وَالحَذَرُ مِنَ الإِفرَاطِ أَوِ التفرِيطِ، فَعَنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما قَالَ: قال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم غَدَاةَ العَقَبَةِ وَهُوَ عَلَى نَاقَتِهِ: ((القُطْ لي حَصًى))، فَلَقَطتُ لَهُ سَبعَ حَصَيَاتٍ هُنَّ حَصَى الخَذفِ، فَجَعَلَ يَنفُضُهُنَّ في كَفِّهِ وَيَقُولُ: ((أَمثَالَ هَؤُلاءِ فَارمُوا))، ثم قَالَ: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِيَّاكُم وَالغُلُوَّ في الدِّينِ؛ فَإِنَّهُ أَهلَكَ مَن كَانَ قَبلَكُمُ الغُلُوُّ في الدِّينِ))؛ رواه النسائي، وغيره وصححه الألباني.

 

فَالاعتِدَالُ مَطلُوبٌ في الأُمُورِ كُلِّهَا؛ وَإِنما يَكُونُ بِالأَخذِ بِحُدُودِ القُرآنِ وآثَارِ السُّنَّةِ، وَالسَّيرِ على مَا فِيهِمَا مِنَ الهَديِ وَالبَيَانِ، ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ ‌أُمَّةً ‌وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ﴾ [البقرة: 143].

 

وَمِن مَعَاني الحَجِّ العظيمةِ وَدُرُوسِهِ العَمِيقَةِ أَنَّ الأُمَّةَ عَلَى مُختَلِفِ أَجنَاسِها، وَتَعَدُّدِ دِيَارِهَا وَأَوطَانِها، وَكَثرَةِ شُعُوبِهَا، وَاختِلافِ أَشكَالِهِم وَأَلوانِهِم وَلُغَاتِهِم لا رَابِطَةَ تَربِطُهُم إِلَّا رَابِطَةُ التَّوحِيدِ، وَلا نَسَبَ يَجمَعُهُم إِلَّا نَسَبُ الدِّينِ؛ وَلهذا وَلَمَّا كَانَت قُرَيشٌ في الجَاهِلِيَّةِ لا تَتَجَاوَزُ حُدُودَ الحَرَمِ في حَجِّها، وَلا تَقِفُ مَعَ النَّاسِ في عَرَفَةَ استِكبَارًا وَاستِنكَافًا جَاءَ كِتَابُ اللهِ لِيَقُولَ لهم: ﴿ ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ ‌أَفَاضَ ‌النَّاسُ ﴾ [البقرة: 199]، وَبُيِّنَ فيهِ أَنَّ المَسجِدَ الحَرَامَ لِلنَّاسِ جمِيعًا: ﴿ سَوَاءً ‌الْعَاكِفُ ‌فِيهِ وَالْبَادِ ﴾ [الحج: 25]، ثم رَسَّخَ الحَبِيبُ صلواتُ اللهِ وَسَلامُهُ عَلَيهِ ذَلِكَ في خُطبَتِهِ في عَرَفَةَ؛ حَيثُ قال: ((إِنَّ دِمَاءَكُم وَأَموَالَكُم حَرَامٌ عَلَيكُم كَحُرمَةِ يَومِكُم هَذَا، في شَهرِكُم هَذَا، في بَلَدِكُم هَذَا، أَلا كُلُّ شَيءٍ مِن أَمرِ الجَاهِلِيَّةِ تَحتَ قَدَمَيَّ مَوضُوعٌ، وَدِمَاءُ الجَاهِلِيَّةِ مَوضُوعَةٌ))، ثم أَكمَلَ هَذَا عَلَيهِ الصلاةُ والسلامُ عَمَلِيًّا أَمَامَ النَّاسِ في نِهَايَةِ ذَلِكَ المَوقِفِ العَظِيمِ حِينَ أَردَفَ مَولاهُ أُسَامَة بنَ زَيدٍ عَلى رَاحِلَتِهِ، ولم يَحمِلْ غَيرَهُ مِن أَشرَافِ بَيتِهِ، أَو عُظَمَاءِ قَومِهِ، أَو وُجَهَاءِ القَبَائِلِ الأُخرَى، ﴿ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ ‌أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ﴾ [الحجرات: 13].

 

وَمِن مَعَاني الحَجِّ العَظِيمَةِ وُجُوبُ تَعظِيمِ الشَّعَائِرِ وَالحُرُمَاتِ، ﴿ ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ ‌حُرُمَاتِ ‌اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ ﴾ [الحج: 30]، ﴿ ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ ‌تَقْوَى ‌الْقُلُوبِ ﴾ [الحج: 32]، فَتَعظِيمُ الشَّعَائِرِ وَالحُرُمَاتِ مِن تَقوَى القُلُوبِ، وَخَشَيتِها لِخَالِقِهَا وَمَولاهَا؛ ولِهَذَا كَانَ خَيرُ زَادٍ يَحمِلُهُ الحَاجُّ وأعظمُهُ وأكملُهُ زادَ الخَشيَةِ وَالتَّقوَى، قال جل وعلا: ﴿ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ ‌خَيْرَ ‌الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ ﴾ [البقرة: 197].

 

وَمِن مَعَاني الحَجِّ والأُصُولِ المُعتَبرَةِ فيه مَا يَظهَرُ في رَميِ الجِمَارِ فِيهِ مِن تَذكِيرِ بني آدَمَ بِأَلَدِّ أَعدَائِهِم، وَتَحذِيرِهِم مِن قَائِدِ اللِّوَاءِ إِلى النَّارِ، قال عز وجل: ﴿ إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ ‌فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ ﴾ [فاطر: 6].

روح دعاها للوصال حبيبها
فسعت إليه تُطيعه وتُجيبُهُ
يا مدعي صدقَ المحبةِ هكذا
فعلُ الحبيبِ إذا دعاهُ حبيبُهُ

 

بارك الله لي ولكم في القرآن الكريم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، إنه كان غفارًا.

 

الخطبة الثانية

الحمد لله الذي شرع لعباده الحج إلى بيته الحرام، أحمده سبحانه جعل منافع الحج مذللة للأنام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله خير من حج البيت، ووقف بالمشاعر العظام، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه الأئمة الأبرار، والتابعين ومن تبعهم بإحسان، أما بعد:

فإن الله عز وجل أعد الفضل السابق للحاج، فكذلك جعل لغير الحاج أعمالًا يتقرب بها إلى الله في هذه الأيام، وأقسم الله بها تنويهًا بفضلها، وإشارة إلى عظيم أجرها، فيقول الله جل وعلا: ﴿ ‌وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ ﴾ [الفجر: 1-2]، ونبينا صلى الله عليه وسلم يقول: ((ما من أيامٍ العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه الأيام))؛ يعني: أيام العشر، قالوا: يا رسول الله، ولا الجهاد في سبيل الله؟! قال: ((ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجلٌ خرج بنفسه وماله، ثم لم يرجع من ذلك بشيء))؛ أخرجه البخاري من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.

 

والعملُ الصالح -عباد الله- يشمل كل خير ومعروف، وبر وإحسان من الأقوال والأفعال والسلوك، ويشرع للحاج وغيره الإكثارُ من ذكر الله جل وعلا في هذه العشر؛ كالتكبير والتهليل، والتحميد والتسبيح، وقراءة القرآن، ومن أعظم ما فيها التكبير المطلق للحاج وغيره في هذه العشر، وكذلك التكبير المقيد، ويبدأ من فجر يوم عرفة لغير الحاج دبر الصلوات، وأما الحاج فيبدأ بعد رمي جمرة العقبة يوم العيد، ومن صيغ التكبير: الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر، ولله الحمد، أو أي صيغة وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم.

 

ومن الأعمال المشروعة في هذه العشر لغير الحاج صيام يوم عرفة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم من حديث أبي قتادة رضي الله عنه: ((صوم يوم عرفة يكفر سنتين ماضية ومستقبلة، وصوم عاشوراء يكفر سنة ماضية))؛ رواه مسلم وغيره.

ومن الأعمال المشروعة للحاج وغير الحاج الأضحية؛ وحكمها سنة، ويكره للقادر أن يدعها.

ومن العلماء من يرى الوجوب كما قاله أبو حنيفة، وهو اختيار شيخ الإسلام، ومال إليه بعض علمائنا فقال: (فالقول بالوجوب أظهر من القول بعدم الوجوب لكن بشرط القدرة).

 

ويقول صلى الله عليه وسلم: ((أربع لا يجزين في الأضاحي: العوراء البين عورها، والمريضة البين مرضها، والعرجاء البين ظلعها، والعجفاء التي لا تُنقي))؛ رواه أحمد وغيره من حديث البراء رضي الله عنه، وصححه الألباني.

وهي مشروعة عن الأحياء؛ إذ لم يرد عن النبي عليه الصلاة والسلام، ولا عن الصحابة أنهم ضحَّوا عن الأموات استقلالًا.

 

وللأضحية شروط وهي:

1) أن تكون من بهيمة الأنعام: وهي الإبل والبقر والغنم؛ لقوله تعالى: ﴿ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ [الحج: 28].

2 ) ومن الشروط أن تكون قد بلغت السن المعتبر شرعًا: للإبل خمس سنوات، وللبقر سنتان، والمعز سنة، والضأن ستة أشهر، ولم يستثنِ النبي صلى الله عليه وسلم لأحد إلا لأبي بردة بن نيار رضي الله عنه لما قال للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، إن عندي عناقًا هي أحسب إليَّ من شاتين، أفتجزئ عني؟ قال: ((نعم، ولن تجزئ عن أحد بعدك))؛ رواه أبو داود وغيره، وصححه الألباني.

 

3) ومن الشروط السلامة من العيوب المانعة، كما جاءت في حديث البراء السابق:

وهناك عيوب لم يرد النهي عنها؛ ولكنها تنافي كمال السلامة، فهذه لا أثر لها، ولا تكره التضحية بها، ولا يحرم وإن كانت قد تعد عند الناس عيبًا؛ مثل: العوراء التي عورها غير بيِّن، ومثل مكسورة السن غير الثنايا، وما أشبه ذلك، ومثل العرجاء عرجًا يسيرًا، فهذه عيوب لكنها لا تمنع الإجزاء، ولا توجب الكراهة؛ لعدم وجود الدليل، والأصل البراءة.

 

4) ومن الشروط أن تكون في وقت الذبح: وهي بداية من يوم العيد بعد الصلاة إلى آخر أيام التشريق (صلاة المغرب يوم الثالث عشر).

فقد ضحى نبيكم صلى الله عليه وسلم 10 سنوات، ألا فاقتدوا به، والزموا غرزه، وأكثروا من الصلاة والسلام عليه، فقد أمركم الله بذلك في كتابه فقال: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ ‌وَسَلِّمُوا ‌تَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 56].

 

اللّهمَّ صلِّ وسلِّم على عبدِك ورسولك محمّد، وارضَ اللهم عن الخلفاءِ الأربعة الراشدين.

اللهم أعز الإسلام والمسلمين.

اللهم أرنا الحق حقًّا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلًا وارزقنا اجتنابه.

اللهم اجعلنا ممن يعظم شعائرك.

اللهم إنا نسألك شكرًا لنعمك وابتغاء مرضاتك.

اللهم إنا نسألك حجًّا مبرورًا، وسعيًا مشكورًا، وعملًا متقبلًا ترضى به عنا.

اللهم ارحم موتانا، واشفِ مرضانا، وتولى أمرنا.

اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى.

 

عباد الله، ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ ‌بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾ [النحل: 90]، فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.





Source link

أترك تعليقا

مشاركة
Book Review: ‘The Push,’ by Ashley Audrain
15 Best Interior Decorating Books for 2024: Interior Design Books