أمة القيادة “وكذلك جعلنكم أمة وسطا”


أمة القيادة

﴿ وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَٰكُمْ أُمَّةً وَسَطًا

 

إن ما يلقي على النفس الهدوء والطمأنينة، ويسكب في القلبِ مشاعر السكينة وراحة البال، تلك العقيدة الإيمانية لمفهوم الإسلام، كما حددها ربنا، جلَّ وعلا.

 

إن العقيدة الإسلامية لا تقبل لها في القلب شريكًا؛ ولا تقبل لها اسمًا غير ما سماها بها الله، “الإسلام”، ولا شعارًا غير شعارها المفرد الصريح؛ إنها لا تقبل راسبا من رواسب الجاهلية في أية صورة من الصور: قبلية، أو طائفية، أو شعبوية، كبر أم صغر.

 

لذلك فالأمة الإسلامية، التي يريد الله لها أن تكون الوارثة للعقيدة، المستخلفة في الأرض لا بدَّ لها من أن تتخلص من كل رواسب الجاهلية ووشائجها؛ وأن تتجرد من كل سماتها الضالة، ومن كل رغباتها الدفينة؛ وأن تتعرى من كل رداء لبسته من جاهلية الإنسان، ومن كل شعار اتخذته لنفسها حبًّا لذاتها، وطمعًا في شهواتها.

 

إن هذه الأمة لها حقيقتها الكبيرة في هذا الكون، ولها وظيفتها الضخمة في هذه الأرض، ولها مكانها العظيم في هذه البشرية، ولها دورها الأساسي في حياة الناس؛ مما يقتضي أن تكون لها مكانتها الخاصة، وشخصيتها الخاصة؛ وألا تسمع لأحد إلا كلام ربها الذي اصطفاها لهذا الأمر العظيم، قال تعالى: ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [البقرة: 143].

 

إنها الأمة الوسط التي تشهد على الناس جميعًا، فتقيم بينهم العدل والقسط؛ وتضع لهم الموازين والقيم؛ وتبدي فيهم رأيها فيكون هو الرأي المعتمد؛ وتزن قيمهم وتصوراتهم وتقاليدهم وشعاراتهم فتفصل في أمرها، وتقول: هذا حق منها وهذا باطل، وليست محكمة العدل الدولية الماسونية، ولا الأمم المتحدة على الشرك والضلال ولا منظمات حقوق الإنسان البهيمية، وحقوق المرأة في التعري والجنس.

 

هذه الأمة لا تتلقى من الناس تصوراتها وقيمها وموازينها. وهي شهيدة على الناس، وفي مقام الحكم العدل بينهم. وبينما هي تشهد على الناس هكذا. وبهذا تتحدد حقيقة هذه الأمة ووظيفتها. لتعرفها، ولتشعر بضخامتها. ولتقدر دورها حق قدره، وتستعد له استعدادًا لائقًا.

 

إنها الأمة الوسط بكل معاني الوسطية سواء في التصور والاعتقاد… لا تغلو في التجرد الروحي ولا في الارتكاس المادي. إنما تتبع الفطرة الممثلة في روح متلبس بجسد، أو جسد تتلبس به روح، وتعطي لهذا الكيان المزدوج الطاقات حقه المتكامل من كل زاد، وتعمل لترقية الحياة ورفعها في الوقت الذي تعمل فيه على حفظ الحياة وامتدادها، وتطلق كل نشاط في عالم الأشواق وعالم النوازع، بلا تفريط ولا إفراط، في قصد وتناسق واعتدال.

 

إنها أمة الوسط في التفكير والشعور… لا تجمد على ما علمت وتغلق منافذ التجربة والمعرفة، ولا تتبع كذلك كل ناعق، من هنا أو هناك، وتقلد تقليد القردة وتأخذ من الحيوانات قدوة لهم في السلوك، والحياة. إنما تستمسك بما لديها من تصورات ومناهج وأصول ثم تنظر في كل نتاج للفكر والتجريب؛ وشعارها الدائم: الحقيقة ضالة المؤمن أنى وجدها أخذها، في تثبت ويقين…

 

إنها أمة الوسط في الارتباطات والعلاقات، فلا تلغي شخصية الفرد ومقوماته، ولا تلاشي شخصيته في شخصية الجماعة أو الدولة؛ ولا تطلقه كذلك فردًا جشعًا لا هم له إلا ذاته… إنما تطلق من الدوافع والطاقات ما يؤدي إلى الحركة والنماء؛ وتطلق من النوازع والخصائص ما يحقق شخصية الفرد وكيانه. ثم تضع من الكوابح ما يقف دون الغلو، ومن المنشطات ما يثير رغبة الفرد في خدمة الجماعة؛ وتقرر من التكاليف والواجبات ما يجعل الفرد خادمًا للجماعة، والجماعة كافلة للفرد في تناسق واتساق…

 

إنها أمة الوسط في المكان، قبلتها في سرة الأرض، وفي أوسط بقاعها. وما تزال هذه الأمة التي غمر أرضها الإسلام إلى هذه اللحظة هي الأمة التي تتوسط أقطار الأرض بين شرق وغرب، وجنوب وشمال، وما تزال بموقعها هذا تشهد الناس جميعا، وتشهد على الناس جميعًا؛ وتعطي ما عندها لأهل الأرض قاطبة؛ وعن طريقها تعبر ثمار الطبيعة وثمار الروح والفكر من هنا إلى هناك؛ وتتحكم في هذه الحركة ماديها ومعنويها على السواء.

 

وما يعوق هذه الأمة اليوم عن أن تأخذ مكانها هذا الذي وهبه الله لها، إلا أنها تخلت عن منهج الله الذي اختاره لها، واتخذت لها مناهج مختلفة ليست هي التي اختارها الله لها، واصطبغت بصبغات شتى ليست صبغة الله واحدة منها! والله يريد لها أن تصطبغ بصبغته وحدها.

 

وأمة تلك وظيفتها، وذلك دورها، خليقة بأن تحتمل التبعة وتبذل التضحية، فللقيادة تكاليفها، وللقوامة تبعاتها، ولا بد أن تفتن قبل ذلك وتبتلى، ليتأكد خلوصها لله وتجردها، واستعدادها للطاعة المطلقة للقيادة الراشدة.

 

إن ما عليه المسلمين اليوم من هوان وضعف وذلة لأعدائهم من اليهود والمشركين – انظر مجازر غزة، وإبادة المسلمين فيها وتحويلها إلى مقبرة، والكل يتفرج – هذا كله، نتيجة تخلي المسلمين عن منهج الله الواضح البين، والخنوع واتباع اليهود والمشركين في كل صغيرة وكبيرة في حياتهم. وتفكك المسلمين فرق وطوائف وجماعات.

 

للأسف الكبير أن أبناء المسلمين يتم تربيتهم على التبعية العمياء لغير منهج الله في كل مناحي الحياة، لذلك انطبق عليهم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم:«لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ قَبْلَكُم شِبْرًا بشبْر، وذراعًا بذراع، حتَّى لو سَلَكُوا جُحْر ضَبٍّ لَسَلَكْتُمُوهُ؛ قلنا: يا رسول الله؛ اليهودُ والنَّصارى؟ قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: فَمَن؟!»؛ رواه الشيخان.

 

لقد كانت مشيئة الله أن تكون حرب غزة على أيد فئة مؤمنة بمنهج ربها، ليظهر لنا الله، أن منهجه هو الذي يجب أن نتبعه، إن أردنا أن نكون أمة وسطا، وتكون لنا الريادة والقيادة بمنهج الله.

 

إن الأمر هنا يتعلق بالاستقامة على هدي الله وتوجيهه؛ ويتعلق بقاعدة التميز والتجرد إلا من طاعة الله ونهجه. إن الطريق واضح، والصراط مستقيم… فإما العلم الذي جاء من عند الله. وإما الهوى في كل ما عداه.



Source link

أترك تعليقا

مشاركة
The best history and politics books of 2022 – The Guardian
مكتبه السلطان – ​كيف تنجح مبادرتك؟ – كتاب صوتي – Kitab Sawti – كتب مسموعة