إذا رأى الهلال أهل بلد لزم الناس كلهم الصوم


إذا رَأى الهلالَ أهلُ بلدٍ لزم الناسَ كلَّهم الصومُ

قالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ -: “وَإِنْ رَآهُ أَهْلُ بَلَدٍ لَزِمَ النَّاسَ كُلَّهُمُ الصَّوْمُ، وَيُصامُ بِرُؤْيَةِ عَدْلٍ وَلَوْ أُنْثَى”.

هُنَا ذَكَرَ رَحِمَهُ اللهُ مَسْأَلَتَيْنِ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: (وَإِنْ رَآهُ أَهْلُ بَلَدٍ لَزِمَ النَّاسَ كُلَّهُمُ الصَّوْمُ).

 

وَالْمَعْنى: مَتَى ثَبَتَتْ رُؤْيَتُهُ بِبَلَدٍ لَزِمَ النَّاسَ كُلَّهُمُ الصَّوْمُ.

 

وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ قَدِ اخْتَلَفَ فِيهَا الْعُلَماءُ عَلَى قَوْلَيْنِ:

الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: إِذَا رُؤِيَ الْهِلالُ فِي بَلَدٍ لَزِمَ النَّاسَ كُلَّهُمُ الصِّيَامُ.

 

وَهَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنابْلَةِ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهورِ[1]؛ لِقَوْلِهِ – صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: «صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ، وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ»[2]، وَهُوَ خِطابٌ لِلْأُمَّةِ كافَّةً.

 

الْقَوْلُ الثَّانِي:إِذَا اخْتَلَفَتِ الْمَطالِعُ فَلِكُلِّ بَلَدٍ رُؤْيَتُهُ[3]؛ لِحَديثِ كُرَيْبٍ الَّذِي رَواهُ مُسْلِمٌ: أَنَّ أُمَّ الْفَضْلِ بِنْتَ الْحَارِثِ بَعَثَتْهُ إِلَى مُعَاوِيَةَ بِالشَّامِ، قَالَ: فَقَدِمْتُ الشَّامَ، فَقَضَيْتُ حَاجَتَهَا، وَاسْتُهِلَّ عَلَيَّ رَمَضَانُ وَأَنَا بِالشَّامِ، فَرَأَيْتُ الْهِلَالَ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ، ثُمَّ قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ فِي آخِرِ الشَّهْرِ، فَسَأَلَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، ثُمَّ ذَكَرَ الْهِلَالَ فَقَالَ: مَتَى رَأَيْتُمُ الْهِلَالَ؟ فَقُلْتُ: رَأَيْنَاهُ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ، فَقَالَ: أَنْتَ رَأَيْتَهُ؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ، وَرَآهُ النَّاسُ، وَصَامُوا وَصَامَ مُعَاوِيَةُ، فَقَالَ: لَكِنَّا رَأَيْنَاهُ لَيْلَةَ السَّبْتِ، فَلَا نَزَالُ نَصُومُ حَتَّى نُكْمِلَ ثَلَاثِينَ، أَوْ نَرَاهُ، فَقُلْتُ: أَوَ لَا تَكْتَفِي بِرُؤْيَةِ مُعَاوِيَةَ وَصِيَامِهِ؟ فَقَالَ: لَا، هَكَذَا أَمَرَنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ»[4].

 

فَدَلَّ هَذَا الْحَدِيثُ: عَلَى أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-لَمْ يَأْخُذْ بِرُؤْيَةِ أَهْلِ الشَّامِ، وَأَخْبَرَ أَنَّهُ يَصُومُ وَيُفْطِرُ حَسَبَ رُؤْيَةِ أَهْلِ بَلَدِهِ، وَأَخْبَرَ أَنَّ ذَلِكَ هُوَ أَمْرُ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- لَهُمْ، فَيُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ أَهْلَ بَلَدٍ مَا أَنْ يَعْلُمَوا بِرُؤْيَةِ أَهْلِ بَلَدٍ آخرَ.

 

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ:(وَيُصامُ بِرُؤْيَةِ عَدْلٍ وَلَوْ أُنْثَى).

وَالْمَعْنى أَنَّ شَهْرَ رَمَضانَ يُصامُ إِذَا رَآهُ شَخْصٌ واحِدٌ وَلَوْ أُنْثَى، لَكِنْ شَريطَةَ أَنْ يَكونَ الرَّائِي عَدْلًا. وَالْعَدْلُ هُوَ: الَّذِي يَجْتَنِبُ كَبائِرَ الذُّنوبِ، وَلَا يُصِرُّ عَلَى الصَّغائِرِ[5]. وَقَدْ أَشارَ بَعْضُ الْعُلَماءِ إِلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ[6]:

الْعَدْلُ مَنْ يَجْتَنِبُ الْكَبائِرَا
وَيَتَّقِي فِي الْأَغْلَبِ الصَّغائِرَا

وَهَلْ يُشْتَرَطُ تَعَدُّدُ الشُّهودِ؟

اخْتَلَفَ الْعُلَماءُ فِي هَذِهِ الْمَسْألَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ:

الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ يُكْتَفَى بِرُؤْيَةِ الْواحِدِ.

 

وَهَذَا الْمَذْهَبُ عندَ الْحَنابِلَةِ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهورِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةِ[7]، وَهُوَ الَّذِي اخْتارَهُ ابْنُ بَازٍ، وَابْنُ عُثَيْمِينَ -رحمهما الله-[8].

 

وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ:

بِمَا رَواهُ أَبُو داوُدَ، وَهُوَ صَحيحٌ مِنْ حَديثِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قالَ: «تَرَاءَى النَّاسُ الْهِلَالَ، فَأَخْبَرْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ أَنِّي رَأَيْتُهُ فَصَامَهُ، وَأَمَرَ النَّاسَ بِصِيَامِهِ»[9].

– وبِمَا أَخْرَجُهُ أَهْلُ السُّنَنِ مِنْ حَديثِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قال: «جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: إِنِّي رَأَيْتُ الْهِلَالَ، فَقَالَ: أَتَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: أَتَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: يَا بِلَالُ، أَذِّنْ فِي النَّاسِ فَلْيَصُومُوا غَدًا»[10].

 

الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ شاهِدَيْنِ.

 

وَهَذَا مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ، وَقَوْلُ الشَّافِعِيَّةِ[11].

 

مَسْأَلَةٌ: اخْتَلَفَ الْعُلَماءُ فِي ثُبُوتِ الشَّهْرِ بِرُؤْيَةِ امْرَأَةٍ واحِدَةٍ عَلَى قَوْلَيْنِ:

الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ يَثْبُتُ دُخولُ الشَّهْرِ بِرُؤْيَةِ امْرَأَةٍ؛ لِأَنَّ هَذَا خَبَرٌ دِينِيٌّ يَسْتَوِي فِيهِ الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى.

وَهَذَا الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنابِلَةِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ[12].

الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ دُخولُ الشَّهْرِ بِرُؤْيَةِ الْمَرْأَةِ؛ لِأَنَّ هَذَا الْمَقامَ مِمَّا يَخْتَصُّ بِهِ وَيُشاهِدُهُ الرِّجالُ، وَلِأَنَّهُمْ أَعْلَمُ بِهَذَا الْأَمْرِ وَأعْرَفُ بِهِ.

وَهَذَا مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةِ[13].


[1] وهذا مذهب الجمهور من: الحنفية، والمالكية، والشافعية في قول، والحنابلة. ينظر: فتح القدير، للكمال (2/ 313)، والذخيرة، للقرافي (2/ 490)، والمجموع، للنووي (6/ 273)، والمغني، لابن قدامة (3/ 107).

[2] تقدم تخريجه قريبًا.

[3] وهذا قول بعض الحنفية، وهو الصحيح عند الشافعية. ينظر: فتح القدير، للكمال (2/ 313)، والمجموع، للنووي (6/ 273). وهذا القول رجحه الصنعاني، وابن عثيمين، رحمهما الله. ينظر: سبل السلام (1/ 559)، والشرح الممتع (6/ 310). وهو الذي: قررته هيئة كبار العلماء، وأفتى به المجمع الفقهي الإسلامي. ينظر: توضيح الأحكام، للبسام (3/ 454، 455).

[4] أخرجه مسلم (1087).

[5] انظر: فتح القدير، للكمال (7/ 412).

[6] هذا البيت لابن عاصم في تحفة الحكام (ص: 23).

[7] انظر: شرح مختصر الطحاوي، للجصاص (2/ 453)، والمجموع، للنووي (6/ 277، 282)، والمغني، لابن قدامة (3/ 164).

[8] انظر: مجموع فتاوى ابن باز (15/ 61)، والشرح الممتع (6/ 312).

[9] أخرجه أبو داود (2342)، وصححه ابن حبان (3447)، والحاكم في المستدرك (1541)، وابن الملقن في البدر المنير (5/ 647).

[10] أخرجه أبو داود (2340)، والترمذي (691)، والنسائي (2113)، وابن ماجه (1652)، وصححه ابن خزيمة (1923)، وابن حبان (3446).

[11] انظر: المدونة (1/ 267)، والمجموع، للنووي (6/ 277).

[12] انظر: شرح مختصر الطحاوي، للجصاص (2/ 453).

[13] انظر: المدونة (1/ 267)، والمجموع، للنووي (6/ 284).





Source link

أترك تعليقا

مشاركة
Review: ‘Family of Liars,’ by E. Lockhart – The New York Times
5 Books On Innovation (And How They'll Make You More Collaborative) – Forbes