الاعتصام بالسنة وسبيل السلف الصالح


الاعتصام بالسنة وسبيل السلف الصالح

 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام والبركة على النبي الخاتم الأمين، وعلى آله وصحبه ومن تبعه بإحسان، آمين، أما بعد:

فَمَن تأمل عجائب أحوال الناس، وغرائب اختياراتهم، وسرعة تقلبهم في محن الدنيا وفتنها، ومسارعتهم لركوب مَا مآله هَلَكَتُهُم؛ أيقن أن الأمر في الغاية القصوى من الخطر، وأنه لا عاصم من أمر الله عز وجل إلا مَن رَحِمَ، فموج الفتن بشبهاتها وشهواتها يحول بين المرء وعقله وعلمه وقلبه وإرادته، فيصبحُ العاقل سفيهًا، ويضحي الحليمُ حيران، ويمسي العالِمُ على خطرٍ، والعابدُ على حَرَضٍ، فما بال الجاهل، فاللهم رحماك رحماك!

 

قال الإمام الزهري: «كان علماؤنا يقولون: الاعتصام بالسنة هو النجاة» [1]. وقال الإمام مالك: «السنة سفينة نوح، من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق» [2].

 

وهذا التشبيه المالكي في الغاية من المطابقة والجودة، ولا غرو؛ فالطيب من معدنه لا يُستغرب، فهو إمام دار الهجرة، معدود من نوادر معادن الحكمة، وذخائر العلم، وحصون الديانة. وتظهر براعة التشبيه لمن تدبر حال الناس في أزمنة الجهل وغربة الدين واستطالة الفسقة، فسفينة السنة علمًا وعملًا ونيَّة واتِّباعًا ودعوة وجهادًا هي سفينة النجاة والفلاح لمن وفقه الله لركوبها والاعتصام بها.

 

قال تقي الدين: «وذلك أن السنة والشريعة والمنهاج: هو الصراط المستقيم الذي يوصل العباد إلى الله. والرسول: هو الدليل الهادي الخِرِّيتُ في هذا الصراط، كما قال تعالى: ﴿ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا ﴾ [الأحزاب: 45، 46]، وقال تعالى: ﴿ وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ ﴾ [الشورى: 52، 53]، وقال تعالى: ﴿ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ﴾ [الأنعام: 153].

 

وقال عبدالله بن مسعود خط رسول الله صلى الله عليه وسلم خطًّا وخطَّ خطوطًا عن يمينه وشماله، ثم قال: «هذا سبيل الله، وهذه سُبُل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه، ثم قرأ: ﴿ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ﴾ [الأنعام: 153]» [3].

 

وإذا تأمل العاقل – الذي يرجو لقاء الله- هذا المثال، وتأمل سائر الطوائف من الخوارج ثم المعتزلة ثم الجهمية والرافضة ومَن أقرب منهم إلى السنة من أهل الكلام مثل الكرامية والكلابية والأشعرية وغيرهم، وأن كلًّا منهم له سبيل يخرج به عما عليه الصحابة وأهل الحديث، ويدَّعي أن سبيله هو الصواب ــ وَجَدَ أنهم المراد بهذا المثال الذي ضربه المعصوم الذي لا يتكلم عن الهوى ﴿ إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ﴾ [النجم: 4]»[4].

 

فلا مندوحة للمؤمن عن الاعتصام بالكتاب والسُّنَّة وعلى قدر اعتصامه تكون كفايته بإذن الله. «وشواهد هذا الأصل العظيم الجامع من الكتاب والسنة كثيرة، وترجم عليه أهل العلم في الكتب (كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة) كما ترجم عليه البخاري والبغوي وغيرهما، فمن اعتصم بالكتاب والسنة كان من أولياء الله المتقين وحزبه المفلحين وجنده الغالبين.

 

إذا عُرف هذا فمعلوم أنما يهدي الله به الضالين، ويرشد به الغاوين، ويتوب به على العاصين، لا بد أن يكون فيما بعث الله به رسوله من الكتاب والسنة، وإلا فإنه لو كان ما بعث الله به الرسول صلى الله عليه وسلم لا يكفي في ذلك؛ لكان دين الرسول ناقصًا محتاجًا إلى تتمة!

 

وينبغي أن يعلم أن الأعمال الصالحة أمر الله بها أمر إيجاب أو استحباب. والأعمال الفاسدة نهى الله عنها. والعمل إذا اشتمل على مصلحة ومفسدة فإن الشارع حكيم، فإن غلبت مصلحته على مفسدته شرعه، وإن غلبت مفسدته على مصلحته لم يشرعه؛ بل نهى عنه كما قال تعالى: ﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 216] وقال تعالى: ﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا ﴾ [البقرة: 219]؛ ولهذا حرمهما الله تعالى بعد ذلك.

 

وهكذا ما يراه الناس من الأعمال مقربًا إلى الله ولم يشرعه الله ورسوله؛ فإنه لا بد أن يكون ضرره أعظم من نفعه. وإلا فلو كان نفعه أعظم غالبًا على ضرره لم يهمله الشارع؛ فإنه صلى الله عليه وسلم حكيم لا يهمل مصالح الدين، ولا يفوت المؤمنين ما يقربهم إلى رب العالمين.

 

لذلك فمن قصد أن يُتوِّبَ المجتمعين على الكبائر وزعم أنه لا يمكنه ذلك إلا من طريق بدعي فهو جاهل بالطرق الشرعية التي بها تتوب العصاة أو عاجز عنها، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين كانوا يدْعُون من هو شر من هؤلاء من أهل الكفر والفسوق والعصيان بالطرق الشرعية التي أغناهم الله بها عن الطرق البدعية. فلا يجوز أن يقال: إنه ليس في الطرق الشرعية التي بعث الله بها نبيَّه ما يتوِّب به العصاة، فإنه قد علم بالاضطرار والنقل المتواتر أنه قد تاب من الكفر والفسوق والعصيان من لا يحصيه إلا الله تعالى من الأمم بالطرق الشرعية التي ليس فيها بدعة»[5].

 

إذا تبيَّن ذلك فالسعيد من اعتصم بموارد العصمة الحقيقية الباقية دون الزائفة الفانية، فمن رام الثبات والهدى فليعتصم برسالة سيد الثقلين صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، «فالسعادة والهدى في متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم والضلال والشقاء في مخالفته، وكل خير في الوجود إما عام وإما خاص فمنشؤه من جهة الرسول، وكل شر في العالم مختص بالعبد فسببه مخالفة الرسول أو الجهل بما جاء به، وسعادة العباد في معاشهم ومعادهم مقرون باتِّباع الرسالة.

 

والرسالة ضرورية للعباد لا بد لهم منها، وحاجتهم إليها فوق حاجتهم إلى كل شيء، والرسالة روح العالم ونوره وحياته، فأي صلاح للعالم إذا عدم الروح والحياة والنور؟!

 

والدنيا مظلمة ملعونة إلا ما طلعت عليه شمس الرسالة، وكذلك العبد ما لم تشرق في قلبه شمس الرسالة ويناله من حياتها وروحها فهو في ظلمة، وهو من الأموات، قال الله تعالى: ﴿ أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا ﴾ [الأنعام: 122] فهذا وصف المؤمن كان ميتًا في ظلمة الجهل فأحياه الله بروح الرسالة ونور الإيمان، وجعل له نورًا يمشي به في الناس. وأما الكافر فميت القلب في الظلمات.

 

وسَمَّى الله تعالى رسالته روحًا، والروح إذا عدم فقد فقدت الحياة، قال الله تعالى: ﴿ وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا ﴾ [الشورى: 52]، فذكر هنا الأصلين، وهما: الروح والنور، فالروح الحياة والنور النور.

 

وكذلك يضرب الله الأمثال للوحي الذي أنزله حياة للقلوب ونورًا لها بالماء الذي ينزله من السماء حياة للأرض وبالنار التي يحصل بها النور، وهذا كما في قوله تعالى: ﴿ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ ﴾ [الرعد: 17].

 

أصول السعادة الثلاثة قد حواها القرآن العظيم:

فالأصل الأول: يتضمن إثبات الصفات والتوحيد والقَدَر وذكر أيام الله في أوليائه وأعدائه، وهي القصص التي قصَّها على عباده والأمثال التي ضربها لهم.

 

والأصل الثاني: يتضمن تفصيل الشرائع والأمر والنهي والإباحة وبيان ما يحبه الله وما يكرهه.

 

والأصل الثالث: يتضمن الإيمان باليوم الآخر والجنة والنار والثواب والعقاب.

 

وعلى هذه الأصول الثلاثة مدار الخلق والأمر، والسعادة والفلاح موقوفة عليها، ولا سبيل إلى معرفتها إلا من جهة الرسل، فإن العقل لا يهتدي إلى تفاصيلها ومعرفة حقائقها، وإن كان قد يدرك وجه الضرورة إليها من حيث الجملة؛ كالمريض الذي يدرك وجه الحاجة إلى الطب ومن يداويه، ولا يهتدي إلى تفاصيل المرض وتنزيل الدواء عليه.

 

وحاجة العبد إلى الرسالة أعظم بكثير من حاجة المريض إلى الطب، فإن آخر ما يقدر بعدم الطبيب موت الأبدان، وأما إذا لم يحصل للعبد نور الرسالة وحياتها مات قلبه موتًا لا تُرْجى الحياة معه أبدًا، وشقي شقاوةً لا سعادة معها أبدًا.

 

فلا فلاح إلا باتِّباع الرسول، فإنَّ الله خصَّ بالفلاح أتباعه المؤمنين وأنصاره كما قال تعالى: ﴿ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [الأعراف: 157]؛ أي: لا مفلح إلا هم كما قال تعالى: ﴿ وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [آل عمران: 104]، فخصَّ هؤلاء بالفلاح كما خصَّ المتقين الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة وينفقون مما رزقهم ويؤمنون بما أنزل إلى رسوله وما أنزل من قبله ويوقنون بالآخرة بالهدى والفلاح، فعلم بذلك أن الهدى والفلاح دائر حول الرسالة وجودًا وعدمًا، وهذا مما اتفقت عليه الكتب المنزلة من السماء، وبُعث به جميع الرسل.

 

ولهذا قصَّ الله علينا أخبار الأمم المكذبة للرسل وما صارت إليه عاقبتهم، وأبقى آثارهم وديارهم عبرة لمن بعدهم وموعظة، وكذلك مسخ من مسخ قردة وخنازير لمخالفتهم لأنبيائهم، وكذلك من خسف به وأرسل عليه الحجارة من السماء وأغرقه في اليَمِّ وأرسل عليه الصيحة وأخذه بأنواع العقوبات، وإنما ذلك بسبب مخالفتهم للرسل، وإعراضهم عما جاؤوا به، واتخاذهم أولياء من دونه.

 

وهذه سنته سبحانه فيمن خالف رسله وأعرض عما جاؤوا به واتبع غير سبيلهم؛ ولهذا أبقى الله سبحانه آثار المكذبين لنعتبر بها ونتعظ لئلا نفعل كما فعلوا فيصيبنا ما أصابهم كما قال تعالى: ﴿ إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ * وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴾ [العنكبوت: 34، 35] وقال تعالى: ﴿ ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ * وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ * وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴾ [الصافات: 136 – 138]؛ أي: تمرون عليهم نهارًا بالصباح وبالليل، ثم قال: ﴿ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴾، وقال تعالى في مدائن قوم لوط: ﴿ وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ * وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ ﴾ [الحجر: 74 – 76] يعنى مدائنهم بطريق مقيم يراها المارُّ بها، وقال تعالى: ﴿ أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ﴾ [الروم: 9].

 

وهذا كثير في الكتاب العزيز، يخبر الله سبحانه عن إهلاك المخالفين للرسل ونجاة أتباع المرسلين، ولهذا يذكر سبحانه في سورة الشعراء قصة موسى وإبراهيم ونوح وعاد وثمود ولوط وشعيب، ويذكر لكل نبي إهلاكه لمكذبيهم والنجاة لهم ولأتباعهم، ثم يختم القصة بقوله: ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ﴾ [الشعراء: 8، 9] فختم القصة باسمين من أسمائه تقتضيهما تلك الصفة وهما العزيز والرحيم، فانتقم من أعدائه بعزته، وأنجى رسله وأتباعهم برحمته.

 

والرسالة ضرورية في إصلاح العبد في معاشه ومعاده، فكما أنه لا صلاح له في آخرته إلا باتباع الرسالة، فكذلك لا صلاح له في معاشه ودنياه إلا باتباع الرسالة، فإن الإنسان مضطر إلى الشرع، فإنه بين حركتين: حركة يجلب بها ما ينفعه، وحركة يدفع بها ما يضرُّه، والشرع هو النور الذي يبين ما ينفعه وما يضره، والشرع نور الله في أرضه، وعدله بين عباده، وحصنه الذي من دخله كان آمنًا.

 

وليس المراد بالشرع التمييز بين الضار والنافع بالحس، فإن ذلك يحصل للحيوانات العُجْم، فإن الحمار والجمل يميز بين الشعير والتراب، بل التمييز بين الأفعال التي تضر فاعلها في معاشه ومعاده؛ كنفع الإيمان، والتوحيد، والعدل، والبر، والتصدق، والإحسان، والأمانة، والعفة، والشجاعة، والحلم، والصبر، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وصلة الأرحام، وبر الوالدين، والإحسان إلى المماليك والجار، وأداء الحقوق، وإخلاص العمل لله، والتوكل عليه، والاستعانة به، والرضا بمواقع القدر به، والتسليم لحكمه، والانقياد لأمره، وموالاة أوليائه ومعاداة أعدائه، وخشيته في الغيب والشهادة، والتقوى إليه بأداء فرائضه واجتناب محارمه واحتساب الثواب عنده، وتصديقه وتصديق رسله في كل ما أخبروا به، وطاعته في كل ما أمروا به مما هو نفع وصلاح للعبد في دنياه وآخرته، وفي ضد ذلك شقاوته ومضرته في دنياه وآخرته.

 

ولولا الرسالة لم يهتد العقل إلى تفاصيل النافع والضار في المعاش والمعاد، فمِن أعظم نِعَم الله على عباده وأشرف مننه عليهم أن أرسل إليهم رسله، وأنزل عليهم كتبه، وبيَّن لهم الصراط المستقيم، ولولا ذلك لكانوا بمنزلة الأنعام والبهائم، بل أشر حالًا منها، فمَن قَبِلَ رسالة الله واستقام عليها فهو من خير البريَّة، ومن ردها وخرج عنها فهو من شرِّ البرية، وأسوأ حالًا من الكلب والخنزير والحيوان البهيم.

 

وفي الصحيح من حديث أبي موسى رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَثَلُ ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضًا، فكانت منها طائفة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكان منها أجادب[6] أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا منها وانتفعوا وزرعوا، وأصاب طائفة منها أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من فَقُهَ في دين الله تعالى ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلّم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسًا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به»[7].

 

فالحمد لله الذي أرسل إلينا رسولًا من أنفسنا يتلو علينا آيات الله ويزكينا ويعلمنا الكتاب والحكمة وإن كنا من قبل لفي ضلال مبين، وقال أهل الجنة: ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ ﴾ [الأعراف: 43].

 

والدنيا كلها ملعونة ملعون ما فيها إلا ما أشرقت عليه شمس الرسالة وأسس بنيانه عليها، ولا بقاء لأهل الأرض إلا ما دامت آثار الرسل موجودة فيهم، فإذا درست آثار الرسل من الأرض وانمحت بالكليَّة خرَّب الله العالم العلوي والسفلي وأقام القيامة!

 

وليست حاجة أهل الأرض إلى الرسول كحاجتهم إلى الشمس والقمر والرياح والمطر، ولا كحاجة الإنسان إلى حياته، ولا كحاجة العين إلى ضوئها، والجسم إلى الطعام والشراب، بل أعظم من ذلك وأشد حاجة من كل ما يقدر ويخطر بالبال، فالرسل وسائط بين الله وبين خلقه في أمره ونهيه، وهم السفراء بينه وبين عباده.

 

وكان خاتمهم وسيدهم وأكرمهم على ربه محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم يقول: «يا أيها الناس إنما أنا رحمة مهداة»[8] وقال الله تعالى: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ﴾ [الأنبياء: 107].

 

وقال صلوات الله وسلامه عليه: «إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب»[9] وهذا المقت كان لعدم هدايتهم بالرسل، فرفع الله عنهم هذا المقت برسول الله صلى الله عليه وسلم، فبعثه رحمة للعالمين ومَحَجَّة للسالكين وحُجَّةً على الخلائق أجمعين، وافترض على العباد طاعتَه ومحبته وتعزيرَهُ وتوقيرَه والقيامَ بأداء حقوقه، وسدَّ إليه جميع الطرق فلم يفتح لأحد إلا من طريقه، وأخذ العهود والمواثيق بالإيمان به واتباعه على جميع الأنبياء والمرسلين، وأمرهم أن يأخذوها على من اتَّبعهم من المؤمنين.

 

أرسله الله بالهدى ودين الحق بين يدي الساعة بشيرًا ونذيرًا، وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا، فختم به الرسالة، وهدى به من الضلالة، وعلَّم به من الجهالة، وفتح برسالته أعْيُنًا عُمْيًا وآذَنًا صُمًّا وقلوبًا غُلْفًا، فأشرقت برسالته الأرض بعد ظلماتها، وتألَّفت بها القلوب بعد شتاتها، فأقام بها الملَّة العوجاء، وأوضح بها المحجَّة البيضاء، وشرح له صدره، ووضع عنه وزره، ورفع ذكره، وجعل الذلة والصغار على من خالف أمره، أرسله على حين فترة من الرسل، ودروس من الكتب، حين حُرِّفَ الكَلِمُ، وبُدِّلت الشرائع، واستند كل قوم إلى أظلم آرائهم، وحكموا على الله وبين عباده بمقالاتهم الفاسدة وأهوائهم، فهدى الله به الخلائق، وأوضح به الطريق، وأخرج به الناس من الظلمات إلى النور، وبصَّر به من العمى، وأرشد به من الغيِّ، وجعله قسيمَ الجنة والنار[10] وفرقَ ما بين الأبرار والفجار، وجعل الهدى والفلاح في اتِّباعه وموافقته، والضلالَ والشقاء في معصيته ومخالفته.

 

وامتحن به الخلائق في قبورهم، فهم في القبور عنه مسؤولون وبه ممتحنون، يؤتى العبد في قبره فيقال: ما كنت تقول في هذا الرجل الذي بُعِث فيكم؟

 

فأما المؤمن فيقول: أشهد أنه عبد الله، جاءنا بالبينات والهدى، فآمنَّا به واتبعناه. فيقال له: صدقت، على هذا حييت، وعليه مت، وعليه تُبعَث إن شاء الله، نَمْ نومةَ العروس لا يوقظه إلا أحبُّ أهله إليه. ثم يُفسح له في قبره، وينوَّر له فيه، ويفتح له باب إلى الجنة، فيزداد غبطةً وسرورًا.

 

وأما الكافر والمنافق فيقول: لا أدري! سمعت الناس يقولون شيئًا فقلته. فيقال له: قد كنا نعلم ذلك، وعلى ذلك حييت، وعليه مت، وعليه تبعث إن شاء الله، ثم يضرب بمرزبة من حديد، فيصيح صيحة يسمعها كل شيء إلا الإنسان[11].

 

وقد أمر الله بطاعة رسوله في أكثر من ثلاثين موضعًا من القرآن، وقرن طاعته بطاعته، وقرن بين مخالفته ومخالفته، كما قرن بين اسمه واسمه فلا يذكر الله إلا ذكر معه، قال ابن عباس رضي الله عنه في قوله تعالى: ﴿ وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ ﴾ [الشرح: 4] قال: «لا أُذكَرُ إلا ذُكرتَ معي» [12]. وهذا كالتشهد والخطب والأذان أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله، فلا يصح الإسلام إلا بذكره والشهادة له بالرسالة.

 

وكذلك لا يصح الأذان إلا بذكره والشهادة له، ولا تصح الصلاة إلا بذكره والشهادة له، ولا تصح الخطبة إلا بذكره والشهادة له.

 

وحذر الله سبحانه وتعالى من العذاب والكفر لمن خالفه قال تعالى: ﴿ لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [النور: 63]، قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى: «أي فتنة هي، إنما هي الكفر».

 

وكذلك ألبس الله سبحانه الذلة والصغار لمن خالف أمره كما في مسند الإمام أحمد من حديث عبدالله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «بُعثتُ بين يدي الساعة حتى يُعبد الله وحده لا شريك له، وجُعل رزقي تحت ظلِّ رمحي، وجُعلت الذلة والصغار على من خالف أمري، ومن تشبه بقوم فهو منهم»[13].

 

وكما أن من خالفه وشاقَّه وعاداه هو الشقي الهالك، فكذلك من أعرض عنه وعما جاء به واطمأن إلى غيره ورضي به بدلًا منه هو هالك أيضًا، فالشقاء والضلال في الإعراض عنه وفي تكذيبه، والهدى والفلاح في الإقبال على ما جاء به وتقديمه على كل ما سواه.

 

فالأقسام ثلاثة: المؤمن به، وهو المتبع له، المحب له، المقدم له على غيره، والمعادي له، والمنابذ له، والمعرض عما جاء به. فالأول هو السعيد، والآخران هما الهالكان»[14].

 

وبالله التوفيق وإليه المآب، وبالله التوفيق، والله أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على محمد وآله.


[1] سير أعلام النبلاء (5/ 337).

[2] الخطيب في «تاريخ بغداد» (8/ 309)، وأبو إسماعيل الأنصاري الهروي في «ذم الكلام» (885).

[3] أحمد (4142، 4437) الدارمي (202) والسنة لمحمد بن نصر المروزي 1/‏9، ومسند أبي داود الطيالسي 1/197، والسنن الكبرى للنسائي 10/‏95 (11110)، وصححه الحاكم (2/813) وقال: «صحيح الإسناد ولم يخرجاه»، من طريق عاصم بن أبي النجود عن أبي وائل عن ابن مسعود، فذكره، وأقره الذهبي، ومسند الدارمي 1/‏285 وحسنه حسن أسد، وابن حبان (1 / 181)، وقال الألباني في ظلال الجنة (16و17): حسن صحيح.

[4] مجموع الفتاوى (4/ 57) وهو في «الانتصار لأهل الأثر» المطبوع باسم «نقض المنطق» 1/‏83. ولا يقصد المصنف الحصر، بل هو الدخول الأولوي في تلك السُّبُل الضالَّة؛ لأنها كبريات البدع التي استقرَّت بأهلها، واستطار في الناس إحداثُهم، واستطالوا في ضلالهم، فهم رؤوس الطرق والسبل المخالفة للسنة فيما خالفتها فيه، فمن سلك سبيلهم فهو منهم، سواء في مرافقتهم في نفس بدعتهم، أو في طريقتها وبنائها وتقعيد أشباهها في ابتداء المخالفة والسير في الإحداث، ولا يمنع دخول غيرهم من كل مُحدِثٍ ضال جهول على تطاول الزمان، والحمد لله رب العالمين.

[5] مجموع الفتاوى (11/ 623 – 628) باختصار وتصرف.

[6] الأجادب: أي صلاب الأرض التي تمسك الماء فلا تشربه سريعًا؛ النهاية (1/242).

[7] البخاري 1/30 (79) ومسلم 7/63 (2282).

[8] قال الأرناؤوط في تحقيق سنن أبي داود (6/ 145): روى ابن سعد في الطبقات 1/ 192، والبيهقي في شعب الإيمان (339) عن طريق وكيع بن الجراح، أخبرنا الأعمش، عن أبي صالح قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا أيها الناس، إنما أنا رحمة مهداة» وهذا سند صحيح لكنه مرسل، ويعضده حديث أبي هريرة في مسلم (2599) قيل: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ادع على المشركين، قال: «إني لم أبعث لعَّانًا وإنما بعثت رحمة».

[10] أي قُسم الناس بسببه إلى سعداء باتِّباعه، وأشقياء بمخالفته.

[11] الترمذي (1071) وحسنه الألباني.

[12] أبو يعلى في مسنده، وابن حبان (1772) وابن جرير في تفسيره (30/ 235) ولا يصح مرفوعًا؛ سلسلة الأحاديث الضعيفة (4/ 230) ولله درُّ حسانِ بنِ ثابت وهو يقول:

[13] أحمد (5667) وصححه أحمد شاكر. وتأمل إنهاء الخبر بنسبة المُتشبِّه لمن تَشَبَّهَ به حمدًا وذمًّا، وما فيه من الإغراء والتحذير.

[14] كتب ورسائل وفتاوى ابن تيمية في الفقه (19/ 93 – 105) باختصار وتصرف.





Source link

أترك تعليقا

مشاركة
خلاف العلماء في سجدة سورة (ص) (PDF)
خطبة أهل الزكاة