الثلث الأخير من الليل – تنبيهات رمضانية


الثلث الأخير من الليل… تنبيهات رمضانية

 

مما لا مناص من التنبيه عليه ذي الأيام أن كثيرًا من الصالحين يغفُلون عن الثلث الأخير، الذي هو وقت النزول الإلهي؛ اتكاءً منهم على عصا التراويح، ولا ريب أن التراويح قيام، لكن الثلث الأخير أشرف وأفضل وقتًا وزمانًا؛ إذ فيه النزول الإلهي، وفيه يقول ربنا: ((هل من سائل فأعطيه؟ هل من داعٍ فأستجيب له؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ هل من تائب فأتوب عليه؟)).

 

وفي سنن الترمذي (4 /636) عن الطفيل بن أبي بن كعب عن أبيه قال: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذهب ثُلُثا الليل، قام، فقال: يا أيها الناس، اذكروا الله، اذكروا الله، جاءت الراجفة، تتبعها الرادفة…))؛ [الحديث، صححه الألباني في “صحيح الترغيب” (1670)].

 

وقد قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: ((أي الدعاء أسمع؟ فقال: جوف الليل الآخر، ودُبُر الصلوات المكتوبة))؛ [أخرجه الترمذي، وحسنه الألباني].

 

وفي سنن أبي داود (2 /454) وسنن الترمذي (5 /462) عن أبي أمامة قال: حدثني عمرو بن عبسة رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((أقرب ما يكون الرب من العبد في جوف الليل الآخر، فإن استطعت أن تكون ممن يذكر الله في تلك الساعة، فكُنْ)).

 

وسُئل الحسن البصري: أي القيام أفضل؟ قال: “جوف الليل الغابر إذا نام من قام من أوله، ولم يقُم بعدُ من يتهجَّد في آخره، فعند ذلك نزول الرحمة، وحلول المغفرة، فلما سمع ذلك مسمع بن عاصم بكى، وقال: إلهي في كل سبيل يبتغي المؤمن رضوانك”؛ [انتهى من مختصر قيام الليل للإمام المروزي (ص/95)].

 

 

وقال رب العالمين جل جلاله: ﴿ تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ﴾ [السجدة: 16].

 

وقال: ﴿ كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ﴾ [الذاريات: 17، 18]، ﴿ وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا * وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا ﴾ [الفرقان: 63، 64].

 

وحقيقة المقام أن ربَّ العالمين ندب عبده إليه، وفتح عليه أبواب المغفرة والتوبة، ويسَّر له السُّبُل إلى الرجوع إليه، والخضوع بين يديه، والاعتراف بذنبه، وعجزه، وضعفه، وتقصيره في حق خالقه، وهو مقام الثناء عليه سبحانه، والأنس به، والخلوة به، والفرح بالقرب منه سبحانه، وذكره وشكره ومناجاته، وهو مقام العزة بعد الذِّلَّة، والنعمة بعد النقمة، ومقام الرحمة الإلهية؛ فلَعمر الله لو أن ملِكًا من الملوك أمَرَ رعيته بأمْرٍ، فخالفوه ولم يمتثلوه، لَغَضِبَ عليهم غضبًا شديدًا، ولَعاقبهم عقابًا أليمًا، فكيف إذا فتح بابه، وقال لرعيته الذين عصوه، وخالفوا أمره: مَن ذا الذي يطلب مني العفو فأعفو عنه؟ لعمر الله، لَتقاتل الناس على عفوه، فكيف بأمر رب العالمين إذا خالفه مخلوق وطرحه ولم يعمل به؟ وكيف إذا دعاه رب العالمين بعدها إلى العفو والتوبة؟ وكيف إذا نزل إلى السماء؟ وأي مؤمن ينام وهو على يقين بأن ربَّه في السماء يقول: من يستغفرني فأغفر له؟ وكيف إذا كان هذا النائم من العصاة؟ ومن ذا يسلم من المعصية والتقصير؟

 

الله أكبر، الله أكبر، إنه لَمقامٌ جَلَلٌ، لا يحيط به إلا الموفَّقون.

 

من أسرار الـقيام في جوف الليل:

إنه وقت الفراغ من الأعمال والأشغال؛ فيتفرغ العبد فيه لطاعة ربه، فلا يشغله عنه شاغل، وأهم من ذلك حضور القلب في هذا الوقت، في الدعاء، والذِّكْرِ، والصلاة؛ لانقطاع العبد عن الصوارف.

 

إنه وقت ينام فيه الناس والأهل والذرية؛ فيتفرغ فيه لطاعة ربه بعيدًا عنهم، فيخلو بربه، ويأنس به جل جلاله.

 

إنه وقت ينام فيه الأشرار والفجَّار الذين يصرفونه عن ربه؛ فهو وقت الفرار من الأشرار، وإن لازموه كل الوقت، فيتهيَّأ له الرجوع إلى ربه جل جلاله.

 

إنه أعون على إخلاص الطاعة لربه؛ حيث لا يراه الناس، إنه وقت يتهيأ للعبد فيه محاسبة نفسه، إن النوم الذي يسبق القيام مُعينٌ له على النشاط لطاعة ربه؛ فيُعينه ذلك على أمرين: الأول: طول القيام، وهو مطلب شرعي، الثاني: الخشوع في صلاته إن صلى، وحضور قلبه إن دعا.

 

وهذا سر بديع؛ وقد روى الإمام البخاري في الجامع الصحيح (1131)، ومسلم في الصحيح أو الجامع الصحيح (1159)، عن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: ((أحبُّ الصلاة إلى الله صلاةُ داود عليه السلام، وأحب الصيام إلى الله صيام داود؛ وكان ينام نصف الليل ويقوم ثُلُثه، وينام سُدُسَه، ويصوم يومًا، ويُفطر يومًا))، وغير ذلك من الفوائد.

 

تنبيه:

من رغب بالقيام ليلًا؛ فعليه بـ:

1- طرق أبواب الاستعانة برب العالمين جل جلاله؛ فإنه لا حول ولا قوة إلا بالله.

 

2- ويجب عليه اجتناب المعاصي؛ لأنها تقسي القلب؛ فتحول بينه وبين أسباب الرحمة.

 

3- وليرفق ببدنه بالنهار من الأعمال الشاقة التي تُوجِب التعب.

 

4- ولْيَسْتَعِنْ بالقيلولة.

 

5- وليقلل مطعمه ومشربه، فإن كان صائمًا أخذ اليسير وقت الفطر، فإن كانت له نية الصوم استوفى ما يريده وقت السَّحَر.

 

6- وليحذر وثارة الفراش؛ أي لين الفراش؛ فإنها تدعو إلى طول النوم؛ [قيام الليل لابن الجوزي (ص/102 – 105) باختصار].





Source link

أترك تعليقا

مشاركة
طبقات الناس في كراهية الموت
تعظيم الصلاة والصيام (خطبة)