بقرة بني إسرائيل


بقرة بني إسرائيل

قصة البقرة:

يقول الله تعالى في كتابه الكريم: ﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ ﴾ [البقرة: 67].

 

جاء في كتب التفسير أنه كان رجل من بني إسرائيل له مال كثير وكان له ابن أخ فقير، فأراد أن يتزوج ابنته، فأبى أن يزوجه إياها، فغضب الفتى وقال: والله لأقتلن عمي، ولآخذن ماله، ولأنكحن ابنته، ولآكلن ديته، فلما قدم تُجَّارٌ ببضائع إلى بني إسرائيل طلب من عمِّه أن يذهب إليهم معه، فقال: يا عم، انطلق معي فخذ لي من تجارة هؤلاء القوم لعلي أن أصيب منها، فإنهم إذا رأوك معي أعطوني، فخرج العم مع ابن أخيه ليلًا، حتى إذا كان بالمكان الذي به التجار، قتل عمَّه، ثم رجع، فلما أصبح جاء بيت عمِّه يطلبه كأنه لا يدري أين هو، ثم انطلق في طلبه، يبحث عنه، فإذا هو في ذلك المكان عند هؤلاء التجار وهم مجتمعون على جثته، فقال: قتلتم عمي، فأدوا ديته، ورفعهم إلى نبي الله موسى عليه السلام، ليحكم عليهم، فقضى موسى عليه السلام بالدية، فقالوا له: يا رسول الله، ادْعُ لنا ربك حتى يبين لنا من قتله، فو الله، إن ديته علينا لهينة، ولكن نستحي أن نُعيَّر به، فقال لهم موسى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً ﴾ [البقرة: 67]، قالوا: نسألك عن القتيل وعمَّن قتله وتقول اذبحوا بقرة؟! أتهزأ بنا؟! ﴿ قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ ﴾ [البقرة: 67]، (جامع البيان، 2/ 186،185).

 

لماذا بقرة؟! إنَّ من لطائف ما أورده الماوردي في تفسيره أنه قال: إنما أمروا بذبح بقرة دون غيرها؛ لأنها من جنس ما عبدوه من دون الله، فأمرهم بذبح بقرة ليظهر من أجابتهم ما بقي في نفوسهم من أثر تعظيمهم للعجل، فإذا امتثلوا بالذبح هان عليهم أمره، وعلموا فساد ما كانوا عليه من تعظيمه؛ (النكت والعيون، 1/ 137).

 

ثم إن ذبح البقرة كان سببًا في إحياء الميت؛ لأن هذا يكون أبلغ في إظهار قدرة الله تعالى على خلق الأشياء من أضدادها، فأراد الله تعالى أن يريهم كيف يحيي المقتول بقتل الحي؛ (جامع العلوم والحكم، 1/ 445).

 

الجهل مرقاة الجفاء:

حين استعاذ موسى عليه السلام من الجهل عندما قالوا له: ﴿ أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا ﴾ [البقرة: 67]، فإننا نتعلم منه أن الاستهزاء من سؤال السائل المسترشد هو من أقبح الجهل، وهذا ينتفي عن الأنبياء قطعًا، أما اليهود فقد وصموا نبيَّهم بالاستهزاء لفساد عقيدتهم فيه، وقلة إيمانهم به، ومع كل ذلك فهو يدل على قلة حيائهم وغلظ طباعهم وجفائهم، وقد حدَثَ لنبينا صلى الله عليه وسلم شيء من قبيل ذلك يوم قسمة غنائم حنين؛ إذ قال له أعرابي: إن هذه القسمة ما أريد بها وجه الله؛ (متفق عليه)، وقال له آخر: اعدل يا محمد؛ (مسند أحمد وابن ماجه وابن حبان، وقال الألباني: صحيح)، وفي هذا كله دليل على قبح الجهل، وأن التمادي فيه مفسد للدين، وأن أصله من غلظ الطبع وقسوة القلب، فإنما يهون على الإنسان اتباع الحق، وتنفيذ أمر الله تعالى، من غير مجادلة، حين يلين طبعه، ويرق قلبه، ويعظم في النفس شأن الآمر، وإجلاله.

 

اللجاجة والتكاسل ضد المحبة:

إن بني إسرائيل قالوا مرتين: ﴿ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ ﴾ [البقرة: 68]، وقالوا أيضًا: ﴿ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا ﴾ [البقرة: 69]، فشددوا فشدد الله عليهم، فإنهم لو نفذوا الأمر من أول مرة ما تعددت ولا تركبت وتعقدت أوصاف البقرة على هذا النحو الذي فُرِض عليهم، وهذا يدل في الإجمال على أن التلكُّؤَ في طاعة الله والتسويف واللجاجة والمماحكة وكثرة التذرع بالأعذار يؤدي بالإنسان إلى ضد قصده، فلا يحصل له من الأجر على العمل إلا على قدر نيته، ويبقى عمله مهترأ معيبًا ناقصًا، في خطر المشيئة إن شاء الله قبله منه وإن شاء رده عليه. فالمسلم ينبغي عليه أن يستجيب لأوامر الله تعالى بهمة ومحبة وإقبال؛ لأنه على قدر النية يكون الأجر.

 

دواء الجهل السؤال:

لم تكن علة بني إسرائيل فيما سبق ذكره في كثرة سؤالهم بالأساس، فإن السؤال لا شيء فيه؛ بل هو مأمور به، قال نبينا صلى الله عليه وسلم: ((شفاء العي السؤال))؛ (رواه أحمد، وحسن إسناده الألباني)، فدواء الجهل سؤال أهل العلم، فالله تعالى لم يشدد عليهم من أجل السؤال؛ ولكن من أجل فساد نيتهم، وتسويفهم، وتباطئهم المتعمد في تنفيذ ما أمروا به، فإنهم أمروا بذبح بقرة، فلو كانت النفوس سوية والعزائم جادة، لذبحوا بقرة، أيَّ بقرةٍ، من دون سؤال عن سن ولا لون ولا صفة، فما هذه الأسئلة التافهة إلا دليلٌ على عدم الاقتناع بالمأمور به.

 

الشك وسوء النية:

بعد كل هذه الأسئلة والأجوبة تأتي المفاجأة فيخبرنا الله سبحانه: ﴿ قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ ﴾ [البقرة: 71]، فلكأن ما جاء به قبل لم يكن حقًّا، ثم إنك تجدهم في كل مراحل اللجاجة والمماطلة، لا يقولون لنبيهم: ادع الله لنا ولكن يقولون: ﴿ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ ﴾ [البقرة، آيات: 68، 69، 70]، إنهم لا يشكون فقط في نبيهم ولكنهم يشكون في الله أصلًا، وينبه القرآن إلى أمر آخر فيقول: ﴿ وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ ﴾ [البقرة: 71]؛ أي: إنهم كانت لهم نية من كثرة السؤال، وهي أن يقولوا في نهاية المطاف: لا نجد بقرة بهذه الأوصاف، فيطلبون التحول عن المأمور به إلى غيره؛ ولكن الله عاملهم بخلاف قصدهم، فقد وجدوا البقرة الموصوفة؛ ولكن بثمن يثقل عليهم، فقد تعينت عليهم بقرة بمواصفات نادرة، فحُقَّ لصاحبها أن يطلب في ثمنها ما يشاء، فإذا به يطلب منهم ثمنًا لها وزنها ذهبًا؛ (جامع البيان، 2/ 76).

 

عقيدة اليوم الآخر عند بني إسرائيل:

قال تعالى: ﴿ فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾ [البقرة: 73]، فأخذ موسى عليه السلام جزءًا من البقرة فضرب به المقتول فقام حيًّا، فسأله: من قتلك؟ قال: فلان، ثم عاد ميتًا، فكانت هذه المعجزة ليترقق بها قلوب بني إسرائيل إلى عقيدة البعث بعد الموت، وأن الله سيحييهم بعد موتهم، فيعلمون قدرة الله على ذلك بالمشاهدة؛ لكنه سبحانه أخبرنا فقال: ﴿ ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً ﴾ [البقرة: 74]، فإذا بهم مع كثرة تعدُّد الدلائل في القرآن الكريم على أن اليوم الآخر كان شاهدًا حاضرًا في تعاليم أنبيائهم، إلا أن اليهود لا يؤمن أكثرهم بذلك، فليس الإيمان باليوم الآخر من المسلمات عندهم؛ بل هو أمر مختلفٌ فيه عندهم، وعقيدتهم فيه بالجملة ملتبسة، وهشة، ولا توافق الحق موافقة تامة؛ إذ جزاء الأعمال الصالحة عندهم إنما هو الانتصار على الأعداء وكثرة الأولاد ونماء الزرع، وجزاء المعاصي هزيمتهم وموت مواشيهم وزروعهم، ففرقة الصدوقيين لا يؤمنون باليوم الآخر مطلقًا؛ (الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب المعاصرة، 1/ 499)، وكذلك فرقة الفريسيين يقولون إن البعث سيكون في الدنيا عند عودة مسيحهم ليشتركوا معه في ملك العالم آخر الزمان؛ (اليهودية، د/ علي وافي ص50).

 

البقرة أول ما نزل بعد الهحرة:

إن الله تعالى أنزل على نبيه سورة البقرة أول قدومه المدينة المنورة ليبين لنا علل الأمة السابقة علينا، فلا نقع فيما وقعوا فيه، فيصيبنا ما أصابهم، فإنما كانت علة بني إسرائيل الأولى هي المماحكة في أوامر الله وعدم الاستجابة لرسوله، وهكذا ينبغي أن نتعلم أن سعادتنا في الدنيا والآخرة إنما هي مرهونة بمدى استجابتنا لله ورسوله، فإما أن نأخذ الإسلام كله كما جاء، فنسعد وننهض، أو أن نأخذ منه وندع فنذل ونخزى ونتخبط.





Source link

أترك تعليقا

مشاركة
الزكاة لأهل غزة
شذرات من دلائل نبوته في إخباره بضعف الأمة الإسلامية في آخر الزمان