تحريم الغناء والمزامير (خطبة)


تحريم الغناء والمزامير

 

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهدِهِ الله، فلا مضلَّ له، ومن يضلل، فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.

 

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102].

 

﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ [النساء: 1].

 

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 70، 71]؛ أما بعد:

 

فإن أصدقَ الحديث كتابُ الله، وأحسنَ الهَدْيِ هَدْيُ محمد صلى الله عليه وسلم، وشرَّ الأمور مُحْدَثاتُها، وكلَّ مُحْدَثَةٍ بدعةٌ، وكلَّ بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

 

عباد الله:

إنما يدعو إلى الضلال والفساد في الأرض، إنما يدعو إلى موت القلوب، وهلاك النفوس، وعمل بصائر، وما يَحُول بين المرء والإيمان والاستقامة على دين الله تعالى، والاستجابة لأمر الله وأمر رسوله، الذي هو حياة القلوب، ونجاة النفوس، ونور البصائر: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ [الأنفال: 24].

 

وأعظم عقوبة تنال المرء إذا حال الله بينه وبين قلبه عقوبةً له على ترك الاستجابة، نعوذ بالله من ذلك.

 

ومن أعظم أسباب الضلال عباد الله، ومن أعظم صور الفساد، انتشارُ صوت الشيطان؛ وهو الغناء وما يصحبه من آلات لهوٍ وطرب، التي هي من أسباب فساد القلوب، وسوء الأعمال، والآيات والأحاديث في تحريم ذلك كثيرة، وأقوال السلف من الصحابة الكرام، والأئمة الأعلام وافِرةٌ متظاهرة، مما لا يشُكُّ مُسْلِمٌ في تحريمها، وتأثيرها السيئ في الأسماع وفي القلوب؛ قال الله تعالى: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ [لقمان: 6]، وقد ثبت عن الصحابة والتابعين بأن لهو الحديث هو الغناء، وهم أعلم الناس بالقرآن وتفسيره؛ قال ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: “الغناء يُنبِتُ النفاق في القلب كما ينبت الماء البَقْلَ”.

 

وقال تعالى: ﴿ أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ * وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ * وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ * فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا [النجم: 59 – 62]؛ قال الحبر ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: “إن السُّمُود هو الغناء”.

 

وهذا الغناء – عباد الله – يدعو إلى اللهو والإعراض والغفلة، ويدعو إلى الأشَرِ والبَطَرِ؛ وقال الله تعالى للشيطان: ﴿ وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ [الإسراء: 64]، وصوته هو الغناء والمزامير.

 

وسُئِل الإمام مالك رحمه الله مما يترخَّص فيه أهل المدينة من الغناء، فقال: “إنما يفعله عندنا الفُسَّاق”.

 

وقال الله تعالى عن عباده: ﴿ وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ [الفرقان: 72].

 

وصَفَ الله عز وجل أهلَ الإيمان الذين هم عباد الرحمن، مادحًا لهم بأنهم لا يحضُرون مجالس الغناء والمزامير، التي يُعصى فيها الله سبحانه، ونزَّهوا أسماعهم عنها.

 

وفي صحيح البخاري تعليقًا مجزومًا به، عن أبي عامر الأشعري رضي الله تعالى عنه، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((لَيَكُوننَّ من أُمَّتِي أقوامٌ يستحِلُّونَ الحِرَ – أي الزنا – والحريرَ والخمرَ والمعازفَ))[1].

 

والأئمة الأعلام على صحة هذا الحديث، والمعازف اسم لكل آلات الملاهي والطرب.

 

وعند البزار بسند صحيح قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((صَوتانِ ملعونانِ؛ صَوتُ مزمارٍ عند نِعمةٍ، وصَوتُ وَيلٍ عند مصيبةٍ))[2].

 

وفي السنن عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((إن اللهَ حرَّم الخمرَ والميسرَ والكُوبةَ وكلَّ مُسكرٍ))[3]، والكُوبَة – عبادَ الله – هي الطَّبْلُ.

 

قال القرطبي رحمه الله: “أما المزامير والأوتار والكوبة، فلا يُختلف في تحريم استماعها، ولم أسمع عن أحد ممن يُعتبر قوله من السلف، وأئمة الخَلَفِ مَن يُبيح ذلك، وكيف لا يُحرَّم؟ وهو شعار أهل الخمور والفسوق، ومُهيَّج الشهوات والفساد والْمُجُون، وما كان كذلك لم يشكَّ في تحريمه، ولا تفسيق فاعله وتأثيمه”.

 

عباد الله:

إنما ذكرناه من الأدلة شيء قليل بالنسبة لِما لم يُذكَر، والمؤمن إذا ذُكِرَ له دليل واحد عن الله تعالى أو عن رسوله صلى الله عليه وسلم على تحريم الغناء والمزامير، قنِع واستجاب، وحَذَر وحذَّر، أما من اتبع هواه، واستحسن الغناء والمزامير، فلن يقنَع، إلا أن يشاء الله.

 

أعزنا الله عز وجل بالاستماع إلى آيات القرآن، وأكرمنا بالإعراض عن الباطل وأهله.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه من كل ذنب يُغفَر لكم، إنه هو الغفور الرحيم.

 

الخطبة الثانية

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه؛ أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، واعملوا بطاعة الله، واعلموا أنكم ملاقو الله، فقدِّموا لأنفسكم ما يُقرِّبكم إلى الله والجنة، ويباعدكم عن سخطه والنار: ﴿ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا [الطلاق: 2، 3].

 

إن من الشر العظيم، والفساد الكبير، المجاهرةَ بمعصية الله تعالى، والدعوة إليها، والاجتماع لها.

 

قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((كُلُّ أُمَّتي مُعافًى إلَّا المُجاهِرِينَ))[4].

 

ومن ذلك اجتماع الناس إلى حفلةِ غناءٍ وطَرَبٍ، وما يطول فيها من معاصٍ وشر وفساد من اختلاط الرجال بالنساء، ومن اللهو والغفلة.

 

عباد الله:

إنْ جَمَعَ الناس لمثل هذه الأمور المنكرة، لتعاون على الإثم والعدوان، وهذا الغناء والمزامير، والاجتماع عليه منكر، فإن أُشِيعَ ونُشر، زاد شرُّه وعظُم ضَرَره.

 

قال الله تعالى: ﴿ لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ [المائدة: 78، 79].

 

استوجبوا لعنة الله عز وجل على أنهم لا يتناهون عن منكر فعلوه، لا ينهى أحد منهم أحدًا عن ارتكاب المآثِمِ والمحارم.

 

وفي المسند عن عبدالله رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((لمَّا وقعَت بنو إسرائيلَ في المعاصي، فنَهَتْهُم علماؤُهُم، فلم ينتَهوا فجالسوهم في مَجالِسِهِم، وواكَلوهم وشارَبوهم، ضرَبَ اللَّهُ قلوبَ بعضِهِم ببَعضٍ ولعنَهُم علَى لسانِ داودَ وعيسَى ابنِ مريَمَ، ذلِكَ بما عَصَوا وَكانوا يعتَدونَ، لا والَّذي نَفسي بيَدِهِ، حتَّى تأطُروهُم علَى الحق أَطرًا))[5].

 

عباد الله:

إن المؤمن في تقلُّب الأحوال وتبدُّل الأيام، وانتشار الشر ومُضِلَّات الفتن، يعتصم بالله ويستمسك بكتاب الله، ويُصفِّي فؤاده، ويُنقِّي نفسه، ويُقبِل على الله عز وجل ويتوب إليه، ويتذوق حلاوة الإيمان ولذة العبادة، ويستعد للقاء الله تعالى، ويستمسك بكتاب الله عز وجل القرآن، ويداوم على قراءته، ولا سيما في أوقات فاضلة في ليالٍ هادئة، حتى يحصل له التدبُّر الذي ينتفع به، أو يستمع إلى آيات ربه فيخشع قلبه، ويخضع بدنه، ويزداد إيمانه، ويقوى يقينه.

اللهم حبِّب إلينا الإيمان، وزيَّنه في قلوبنا، وكرِّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين.


[1] أخرجه البخاري موصولًا وصورته معلقًا بصيغة الجزم (5590).

[2] أخرجه البزار (7513).

[3] وأخرجه أحمد (6591).

[4] البخاري، 6069

[5] أخرجه الترمذي (3047)، وأحمد (3713).





Source link

أترك تعليقا

مشاركة
مكتبه السلطان – ​كيف تنجح مبادرتك؟ – كتاب صوتي – Kitab Sawti – كتب مسموعة
خطبة اسم الله المتكبر