رجب الحرام وبعض أحكامه


رجب الحرام وبعض أحكامه

 

بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على نبينا محمد وصحابته أجمعين؛ أما بعد:

 

فأقول مختصِرًا وبالله التوفيق:

فضَّل الله بعضَ الشهور على بعض، وبعض الأماكن على بعض، ﴿ وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ ﴾ [القصص: 68]، ولكن لا يثبُت فضلٌ لزمان أو مكان إلا بدليل قطعي صريح.

 

ومن اختيار الله وتفضيله اختيارُه بعض الأيام والشهور وتفضيلها على بعض؛ كتفضيل يوم عرفة، ويوم النحر، ويوم عاشوراء، ويوم الجمعة على سائر الأيام، ومن الشهور رمضان، والأشهر الأربعة الحُرُم؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ ﴾ [التوبة: 36].

 

وقد جاءت في فضل رجبٍ أحاديثُ ما بين ضعيف وموضوع، وليس في رجبٍ حديثٌ صحيح في فضله، وإنما كان أهل الجاهلية يخصُّونه بالصيام، ورجب من الأشهر الأربعة الحرم، كما جاء في الصحيح: ((… ثلاث متواليات: ذو القَعدة وذو الحِجة والمحرَّم، ورجبُ مُضَرَ الذي بين جُمادى وشعبانَ…))، فهو من الأشهر الحُرُم، ولكن لا يشرع تخصيصه بصوم أو غيره.

 

وقد كتب الإمام الحافظ ابن حجر العسقلاني الشافعي رسالة بعنوان: “تبيين العجب بما ورد في فضل رجب”، جمع فيها الأحاديث الواردة في فضائل شهر رجب، وقسَّمها إلى ضعيفة وموضوعة، فمن أراد الاستزادة، فليرجع اليها.

 

وقد ذكر العلماء لشهر رجب الحرام ثمانية عشر اسمًا؛ من أشهرها “الأصبُّ”؛ لانصباب الرحمة فيه، و”الأصمُّ”، و”مُنْصِل الأسِنَّة”؛ كما ذكره البخاري عن أبي رجاء العطاردي قال: ((كنا نعبد الحَجَر، فإذا وجدنا حَجَرًا هو خير منه ألقيناه وأخذنا الآخر، فإذا لم نجد حجرًا جمعنا حثوةً من تراب ثم جئنا الشاء – الشِّياه – فحلبنا عليه ثم طُفْنا به، فإذا دخل شهر رجب، قلنا: مُنْصِل الأسنة، فلم نَدَعْ رمحًا فيه حديدة، ولا سهمًا فيه حديدة إلا نزعناه فألقيناه)).

 

ومن خصائص هذا الشهر الحرام تحريم القتال فيه، ويعني ذلك تحريم الظلم بمعناه الواسع، سواء ظلم الإنسان لنفسه أو ظلمه لغيره، وهو معنى قول كثير من المفسرين، وكذلك عدم انتهاك العهود والمواثيق في واقعنا المعاصر، والسبب الرئيس في تحريم القتال في الشهر الحرام هو تأمين الطريق لقاصدي البيت الحرام.

 

قوله تعالى: ﴿ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ ﴾ [التوبة: 36]؛ أي في هذه الأشهر المحرمة، لأنه آكَدُ وأبلغ في الإثم من غيرها، كون الضمير في قوله ﴿ فِيهِنَّ ﴾ عند أهل اللغة يرجع إلى أقرب مذكور على تفصيل في مكانه، كما أن المعاصي في البلد الحرام تُضاعَف؛ لقوله تعالى: ﴿ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾ [الحج: 25]، وهذا الذي عليه المحقِّقون من أهل العلم أنها تُضاعَف من جهة الكيفية، لا من جهة العدد؛ لأن الله تعالى يقول: ﴿ مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ﴾ [الأنعام: 160]، هذا من جهة المكان.

 

أما من جهة الزمان كالشهر الحرام، فإنه تُغلَّظ فيه الآثام عند بعض أهل العلم، ولهذا تُغلَّظ فيه الدِّيَة في مذهب الشافعي وطائفة كثيرة من العلماء، وكذا في حقِّ مَن قَتَلَ في الحرم أو قَتَلَ ذا محرم على تفصيل فيها.

 

ولهذا جاء عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: ﴿ إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ ﴾ [التوبة: 36] في كلهن، ثم اختص من ذلك أربعةَ أشهر، فجعلهن حرامًا، وعظَّم حرماتهن، وجعل الذنب فيهن أعظم، والعمل الصالح والأجر أعظم.

 

وقد اختلف العلماء في تحريم ابتداء القتال في الأشهر الحرم هل هو مُحْكَم أم منسوخ على قولين:

القول الأول: أن ابتداء القتال في الشهر الحرام حرام، وأنه لم ينسخ تحريم الحرام؛ لقوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ ﴾ [المائدة: 2]، وقال: ﴿ الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ ﴾ [البقرة: 194]، وقال: ﴿ فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ ﴾ [التوبة: 5]، وقد تقدَّم أنها الأربعة المقرَّرة من كل عام.

 

والثاني – وهو الأشْهَرُ – أنه منسوخ؛ لقوله تعالى: ﴿ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً ﴾ [التوبة: 36]، والأمر بقتال المشركين وظاهر السياق مُشْعِرٌ بأنه أمَرَ بذلك أمرًا عامًّا، فلو كان مُحَرَّمًا في الشهر الحرام لأوشك أن يقيده بانسلاخها، ولأن رسول الله صلى الله عليه وسلم حاصر أهل الطائف في شهر حرام – وهو ذو القعدة – كما ثبت في الصحيحين أنه خرج إلى هوازن في شوال، فلما كسرهم واستفاء أموالهم، ورجع فَلُّهم، فلجؤوا إلى الطائف، عمَدَ إلى الطائف فحاصرها أربعين يومًا.

 

ومن مظاهر تفضيل الأشهر الحُرُم – بما فيها رجب – كما يتوهم بعض الناس ندب الصيام فيها، لكنه كما قال ابن حجر لم يَرِدْ حديث خاص بفضل الصيام فيه، لا صحيح ولا حسن.

 

ويستثنى من ذلك ما دلَّ الندب على تخصيص يوم معين؛ كيوم عرفة لغير الحاج، وعاشوراء، وثلاثة أيام عمومًا من كل شهر…؛ إلخ.

 

وسأذكر هنا بعض الأحاديث الضعيفة في صيامه؛ فمنها على سبيل المثال حديث: ((إن في الجنة نهرًا يُقال له رجب، ماؤه أشد بياضًا من اللبن وأحلى من العسل، من صام يومًا من رجب سقاه الله من ذلك النهر))، وحديث: ((من صام من رجبٍ يومًا كان كصيام شهر، ومن صام منه سبعة أيام، غُلِّقت عنه أبواب الجحيم السبعة، ومن صام منه ثمانية أيام، فُتحت أبواب الجنة الثمانية، ومن صام منه عشرة أيام بُدِّلت سيئاته حسنات))، ومنها حديث طويل جاء في فضل صيام أيام منه، وفي سياق الحديث: ((رجب شهر الله، وشعبان شهري، ورمضان شهر أُمَّتِي))، وقيل: إنه موضوع، وجاء في الجامع الكبير للسيوطي أنه من رواية أبي الفتح بن أبي الفوارس في أماليه عن الحسن مرسلًا.

 

وأما الأحاديث الدالة على فضل الصلاة فيه فضعيفة، بل موضوعة؛ كحديث: ((من صلى المغرب في أول ليلة من رجب ثم صلى بعدها عشرين ركعة، يقرأ في كل ركعة بفاتحة الكتاب، وقل هو الله أحد مرةً، ويسلم فيهن عشر تسليمات، حفِظه الله في نفسه وأهله وماله وولده، وأُجِير من عذاب القبر، وجاز على الصراط كالبرق بغير حساب ولا عذاب))، ومثلها صلاة الرغائب.

 

وأما حكم صيام شهر رجب كاملًا، فقد عقد ابن حجر في هذه الرسالة فصلًا ذكر فيه أحاديث تتضمن النهي عن صوم رجب كله؛ ثم قال: “هذا النهي منصرف إلى من يصومه معظِّمًا لأمر الجاهلية، أما إن صامه لقصد الصوم في الجملة من غير أن يجعله حتمًا، أو يخص منه أيامًا معينة يواظب على صومها، أو ليالي معينةً يواظب على قيامها، بحيث يظن أنها سُنَّة، فهذا مَن فَعَلَهُ مع السلامة مما استُثني، فلا بأس به”.

 

وهذا من فطنته وإلمامه رحمه الله بمقاصد الشريعة العامة عند الفُتيا والتنزيل، فإنه نظر إلى قصد المكلِّف، وليس لمجرد الفعل عاريًا عن القصد، وما أحوجنا جميعًا إلى دراسة المقاصد، وإعمالها عند الفُتيا والنوازل عمومًا، حتى لا يهِرف الْمُفتي بما لا يعرف، ومن تكلَّم في غير فنِّه أتى بالعجائب.

 

فمن لم يدرس مقاصد الشريعة، إضافة إلى بقية العلوم لا يصلح أن ينصِّب نفسه مفتيًا، وإن كان يُفتي؛ ثم قال الحافظ: “فإن خص ذلك – أي صيام رجب – أو جعله حتمًا فهذا محظور، وهو في المنع بمعنى قوله صلى الله عليه وسلم: ((لا تخصُّوا يوم الجمعة بصيام ولا ليلتها بقيام))؛ [أخرجه مسلم].

 

وإن صامه معتقدًا أن صيامه أو صيام شيء منه أفضل من صيام غيره، ففي هذا نظر، وأما الحافظ ابن حجر، فقد مال إلى المنع، ونقل عن أبي بكر الطرطوشي في كتاب (البدع والحوادث) أن صوم رجب يُكرَه على ثلاثة أوجه؛ أحدها: أنه إذا خصه المسلمون بالصوم في كل عام حسب العوام، إما أنه فرض كشهر رمضان، وإما سنة ثابتة كالسنن الثابتة، وإما لأن الصوم فيه مخصوص بفضل ثواب على صيام باقي الشهور، ولو كان من هذا شيء، لبيَّنه النبي صلى الله عليه وسلم؛ قال ابن دحية: “الصيام عمل بِرٍّ، لا لفضل صوم شهر رجب، فقد كان عمر ينهى عنه”؛ [انتهى كلامه].

 

وأما التتابع في صيام رجب، وحِرْصُ الناس على زيارة القبور في أول جمعة منهن فليس له أصل من الدين.

 

وكل هذا يقودنا إلى القاعدة المشهورة أن “العبادات مبنية على التوقف”، إلا بدليل على تفصيل في مكانه.

 

وقد تجد بعض المسلمين يقع في البدع سواء فيما يخص رجب أو غيره بشكل عام، فينبغي الرفق واللين في تعليمه، وعدم القسوة والغلظة؛ كما قال تعالى: ﴿ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ﴾ [آل عمران: 159]، ولأنك لست مأمورًا شرعًا بإلزام الناس: ﴿ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ ﴾ [الغاشية: 22]، ﴿ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ ﴾ [ق: 45]، بل بالتذكير والتبليغ: ﴿ إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ ﴾ [الشورى: 48]، وعموم قوله تعالى: ﴿ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ ﴾ [ق: 45]، وقوله تعالى: ﴿ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا ﴾ [البقرة: 83]، وقوله: ﴿ وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾ [الإسراء: 53]، فلربما بقسوتك تنفر كثيرًا ممن يقع في مثل هذه؛ وفي المتفق عليه، قال صلى الله عليه وسلم: ((يسِّروا ولا تعسِّروا، وبشِّروا ولا تنفِّروا))، فالواجب الحرص كل الحرص على إيصال العلم وتعليمه بشكل يليق بمكانة العلم وأهله.

 

وشهر رجب الحرام محطة مهمة لنتذكر آباءنا المسلمين الفاتحين الذين ملؤوا الدنيا فتوحاتٍ وانتصاراتٍ، كما في غزوة تبوك؛ ليكون حافزًا للمسلمين على تطهير المسجد الأقصى من براثن اليهود المحتلين، ونصرة إخواننا المستضعفين المسلمين في فلسطين.

 

كما نتذكر حادثة الإسراء والمعراج على أنها بداية انطلاقة لريادة الأمة، وأخْذِ زِمام المبادرة، مهما ضعُفت وتراجعت، فاللهم رُدَّنا إلى دينك ردًّا جميلًا، وانصر عبادك المستضعفين في كل مكان، واحقُن دماء المسلمين، وانصرهم على القوم الكافرين، آمين.





Source link

أترك تعليقا

مشاركة
مكتبه السلطان – شيفك احلى حاجه حصلت فى حياته
مكتبه السلطان – كتاب صوتى خلق المسلم – محمد الغزالى || الرحمة