طبقات الناس في كراهية الموت


الدرس الثامن عشر: طبقات الناس في كراهية الموت

 

واعلم زادك الله علمًا – أن الناس ليسوا على طبقة واحدة في كراهية الموت، بل يتفاوتون على حسب ما عندهم من إيمان وقربٍ، أو ما عندهم من معاصي وبُعد عن الله، وإليك بيان ذلك:

الطبقة الأولى: الحياء من الله:

أعلى هذه الطبقات طبقة أهل الحياء من رب الأرض والسماء، وهو أن يستحيي العبد من لقاء ربه لِما جنت يداه كحياء أم هارون.

 

قال أحمد أبي الحواري: قلت لأم هارون العابدة الدمشقية:

أتحبين الموت؟

 

قالت: لا.

 

قلت: ولِمَ؟

 

قالت: لو عصيت آدميًّا ما أحببت لقاءه، فكيف أحب لقاء الله وقد عصيته؟[1].

 

الطبقة الثانية: الخشية الحادة من أن ينزل المرء منزلة تضره ولا تسره:

وهذا من الأخطار التي ينبغي على العاقل ألا يغفل عنها، فالإنسان منا لا يدري أهو من أهل السعادة أو من أهل الشقاوة.

 

قال بعض أصحاب هذه الخشية:

وكيف تنام العينُ وهي قرير
ولم تدرِ في أي المحلين تنزل؟

قال سعيد بن أبي عطية:

لما حضر أبا عطية الموت جزع منه، فقالوا له:

أتجزع من الموت؟

فقال: ما لي لا أجزع، فإنما هي ساعة، ثم لا أدري أين يسلك بي؟[2].

 

لما حضرت أحمد بن خضرويه الوفاة، سئل عن مسألة فدمعت عيناه، وقال:

يا بني، باب كنت أدقه خمسًا وتسعين سنة، هو ذا يفتح الساعة لي، لا أدري أيفتح بالسعادة أو الشقاوة، فأنى لي أوان الجواب؟[3].

 

عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم أنه ذكر عمر وأبا بكر ابني المنكدر قال: “لَما حضر أحدهما الموت بكى، فقيل له: ما يبكيك؟ إن كنا لنغبطك بهذا اليوم، قال: أما والله ما أبكي أن أكون ركبت شيئًا من معاصي الله اجتراءً على الله، ولكني أخاف أن أكون أتيت شيئًا هينًا وهو عند الله عظيم، قال: وبكى الآخر عند الموت فقيل له مثل ذلك، فقال: إني سمعت الله يقول لقوم: ﴿ وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ ﴾ [الزمر: 47]، فأنا أنتظر ما ترون، والله ما أدري ما يبدو لي”[4].

 

عن محمد بن المنكدر أنه بينا هو ذات ليلة قائم يصلي، إذ استبكى وكثر بكاؤه حتى فزع أهله، وسألوه ما الذي أبكاه، فاستعجم عليهم وتمادى في البكاء، فأرسلوا إلى أبي حازم، فأخبروه بأمره، فجاء أبو حازم إليه، فإذا هو يبكي قال: يا أخي، ما الذي أبكاك قد رعت أهلك؟ أفمن علة أم ما بك؟ قال: فقال: إنه مرت بي آية في كتاب الله عز وجل قال: وما هي؟ قال: قول الله تعالى: ﴿ وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ ﴾، قال فبكى أبو حازم أيضًا معه واشتد بكاؤهما، قال: فقال بعض أهله لأبي حازم: جئنا بك لتفرِّج عنه فزدتَه، قال: فأخبرهم ما الذي أبكاهما[5].

 

الطبقة الثالث: ضعف التزود من العمل الصالح:

وهم أقوام أحسوا بقلة الزاد وبعد السفر وقلة الأنيس، لذا فهم يكرهون الموت مخافة الفوت؛

 

قال الله سبحانه قد قال فيمن هذا شأنهم: ﴿ وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ [المنافقون: 10، 11].

 

تحسر بعض الناس عند الموت، فقيل له: ما بك؟

فقال ما ظنكم بمن يقطع سفرًا طويلًا بلا زاد، ويسكن قبرًا موحشًا بلا مؤنس، ويقدم على حكم عدل بلا حجة[6].

 

بكى أبو هريرة قبل الوفاة فقيل له: وما يبكيك؟ فقال: [قلة الزاد، وبعد السفر، وضعف اليقين، وخوف الوقوع من الصراط في النار][7].

 

 

روي أن أبا الدرداء رضي الله عنه، وقف ذات يوم أمام الكعبة ثم قال لأصحابه: “أليس إذا أراد أحدكم سفرًا يستعد له بزاد؟ قالوا: نعم، قال: فسفر الآخرة أبعد مما تسافرون! فقالوا: دلنا على زاده؟ فقال: (حجوا حجة لعظائم الأمور، وصلُّوا ركعتين في ظلمة الليل لوحشة القبور، وصوموا يومًا شديدًا حرُّه لطول يوم نشوره)[8].

 

الطبقة الرابعة: الإسراف على النفس والغفلة عن محاسبتها:

إخوة الإيمان، إن الغفلة عن المحاسبة، والتسويف بالمتاب، يُفضيان إلى تراكم السيئات، حتى يذهل من تراكمها من ينتبه إليها.

 

كان الشيخ توبة بن الصمة من الطيبين، وكان محاسبًا لنفسه في أكثر أوقات ليله ونهاره، فحسب يومًا ما مضى من عمره، فإذا هو ستون سنة، فحسب أيامها، فكانت إحدى وعشرين ألف يوم وخمسمائة يوم، فقال: يا ويلتا، ألقى مالكي بإحدى وعشرين ألف ذنب ثم صعق صعقة كانت فيها وفاته، (وهذا بحساب ذنب واحد فقط في اليوم الواحد)[9].

 

وتأملوا في أحوال المحسنين الذين يخافون من الله تعالى؛ فعن عبد الله بن مسعود، حديثين: أحدهما عن النبي صلى الله عليه وسلم، والآخر عن نفسه، قال: «إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل يخاف أن يقع عليه، وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب مر على أنفه»، فقال به هكذا، قال أبو شهاب: بيده فوق أنفه”[10].

 

كانوا يتهمون أعمالهم وتوبتهم، ويخافون ألا يكون قد قُبل منهم ذلك، فكان ذلك يوجب لهم شدة الخوف وكثرة الاجتهاد في العمل الصالح؛ قال الحسن: أدركت أقوامًا لو أنفق أحدهم ملء الأرض ما أمِن لعِظَم الذنب في نفسه.

 

فهذا عمر بن عبد العزيز رحمه الله عند موته يقول: أجلسوني، فأجلسوه، فقال: أنا الذي أمرتني فقصَّرت، ونهيتني فعصيت، ولكن لا إله إلا الله، ثم رفع رأسه فأحدَّ النظر، فقالوا له: إنك لتنظر نظرًا شديدًا يا أمير المؤمنين، قال: إني أرى حضرة ما هم بإنس ولا جن ثم قبض رحمه الله وسمعوا تاليًا يتلو: ﴿ تِلْكَ الدَّارُ الآخرة نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [القصص:83][11].

 

قال معاوية – رضي الله عنه – عند موته لمن حوله: أجلسوني…. فأجلسوه…. فجلس يذكر الله، ثم بكى، وقال: الآن يا معاوية، جئت تذكر ربك بعد الانحطام والانهدام، أما كان هذا وغض الشباب نضير ريَّان؟! ثم بكى وقال: يا رب، يا رب، ارحم الشيخ العاصي ذا القلب القاسي…. اللهم أقل العثرة، واغفر الزلة، وجُد بحلمك على من لم يرجُ غيرك، ولا وثق بأحد سواك…. ثم فاضت روحه رضي الله عنه[12].

 

الطبقة الخامس: تعلق المرء بالدنيا أو بشيء معين منها:

واعلم أن من تعلَّق قلبه بالدنيا وبشيء من متاعها، كره الموت؛ لأنه يعلم أنه سيفوت على ذلك المحبوب؛ روى الأصمعي عن أبي عمرو بن العلاء القارئ النحوي أنه قال: بينما أنا ذات يوم -أحسبه قال في ضيعتي – سمعت قائلًا يقول:

وإن امرأً دنياه أكبرُ همه
لمستمسك منها بحبل غرور

فكتبت هذا البيت على فص خاتمي فكان نقشه هذا[13]، قال الحسن – رحمه الله – ابن آدم، لا تعلق قلبك بشيء من الدنيا، تعلِّقها شرَّ تعلُّقٍ، اقطع عنك حبائلها، وأغلق دونك أبوابها.

 

وليكن حسبك -أيها المغرور- منها ما يبلغك المحل، وإياك أن تظن أنك تُباهي يوم القيامة بمالك وولدك، هيهات أن ينفعك شيء من ذلك يوم يقوم الحساب! ذلك يوم تذهب الدنيا فيه بحالها، وتبقى الأعمال قلائد في أعناق عمَّالها.

 

خاتمة السوء: وها هي خاتمة السوء لمن تعلَّق بشيء من متاع الدنيا والخواتيم ميراث السوابق.

ففي كتاب العاقبة: أن رجلًا كَانَ وَاقِفًا على بَاب دَاره، وَكَانَ بَابهَا يشبه بَاب حمام مُجاور له، فمرت بِهِ جَارِيَة لَهَا منظر، وَهِي تَقول: أَيْن الطَّرِيقُ إِلَى حمَّام منْجَاب…

 

فَقَالَ لَهَا: هَذَا حمَّام منْجَاب… وَأَشَارَ إِلَى دَاره.. فَدخلت الدَّار، فَدخل وَرَاءَهَا، فَلَمَّا رَأَتْ نَفسهَا مَعَه فِي دَاره وَلَيْسَت بحمَّام علمت أَنه خدعها، فعلمت أنه لا نجاة لها منه إلا بالحيلة والخداع.. فأظهرت لَهُ الْبشر والفرح باجتماعها مَعَه على تِلْكَ الْخلْوَة فِي تِلْكَ الدَّار، وَقَالَت لَهُ: يصلح أَن يكون عندنَا مَا يطيب بِهِ عيشنا وتقر بِهِ عيوننا، من طعام وشراب.

 

فَقَالَ لَهَا: السَّاعَة آتِيك بِكُل مَا تريدين وَبِكُل مَا تشتهين، وَخرج فَتَركهَا فِي الدَّار، وَلم يغلقها، وَتركهَا مَفْتُوحَة على حَالهَا وَمضى، فَأخذ مَا يصلح لَهما وَرجع، وَدخل الدَّار فَوَجَدَهَا قد خرجت وَذَهَبت، وَلم يجد لَهَا أثرًا، فهام الرجل بهَا، وَأكْثر الذّكر لَهَا، والجزع عَلَيْهَا، وَجعل يمشي فِي الطّرق والأزقة وَهُوَ يَقُول:

يَا رب قائلة يَوْمًا وقد تعبت
أَيْن الطَّرِيق إِلَى حمام منْجَاب

وَفي رواية: أنه بعد أشهر مر فِي بعض الْأَزِقَّة وَهُوَ ينشد هَذَا الْبَيْت، وَإِذا بِالجَارِيَة تجاوبه من طاق وَهِي تَقول:

هلا جعلت لَهَا إِذْ ظَفِرتَ بهَا
حرْزا على الدَّار أَو قُفلا على الْبَاب؟
إِنْ يَنْفَد الرِّزْقُ فَالرّزَّاقُ يَخْلِفُهُ
وَالعِرْضُ إِنْ نْفَدَ فمِنْ أَيْنَ يُنْجَابُ؟

 

فَزَاد هيمانه، وَاشْتَدَّ هيجانه، وَلم يزل كَذَلِك حَتَّى كَانَ من أمره أنه لما نزل بِهِ الْمَوْت وجاءت ساعة احتضاره، فَقيل لَهُ قل: “لَا إِلَه إِلَّا الله”، فلا يستطيع، إنما جعل يَقُول: أَيْن الطَّرِيقُ إِلَى حمَّام منْجَاب؟[14].


[1] (صفة الصفوة ج4 ص304).

[2] (الحلية ج5 ص 154).

[3] (رسالة الثبات عند الممات ص 62)

[4] المحتضرين (ص: 170)

[5] حلية الأولياء (3/ 146)

[6] (الكشكول للعاملي ج1 ص 290)

[7] مفتاح الأفكار للتأهب لدار القرار (1/ 35)

[8] حلية الأولياء (1/ 165)

[9] -(الكشكول للعاملي ج2 ص 337)

[10] أخرجه: البخاري 8/83-84 (6308)

[11] المحتضرين لابن أبي الدنيا (ص: 84)

[12] العاقبة في ذكر الموت (ص: 125)

[13] الهواتف (ص: 67)

[14] العاقبة في ذكر الموت (ص: 179)





Source link

أترك تعليقا

مشاركة
من مات وعليه صوم أو حج أو اعتكاف أو نذر استحب لوليه قضاؤه
الثلث الأخير من الليل – تنبيهات رمضانية