فاعلية التناسب البلاغي في انسجام الخطاب الشعري


تقديم د. عبدالرحيم وهابي لكتاب:

فاعلية التناسب البلاغي في انسجام الخطاب الشعري”

[صدر للباحث “محمد حماني” كتاب جديد، عن دار “حكاوي” بمصر، وذلك بمناسبة معرض القاهرة الدولي (24 يناير 2024)، ويقع الكتاب في (184 صفحة) من القطْع المتوسط، وقد قدَّم للكتاب الدكتور “عبدالرحيم وهابي”، أحد أعلام البلاغة الجديدة، وفيما يلي نص التقديم]:

يكتسي التناسب أهمية خاصة في الدرس البلاغي واللساني، باعتباره من مصطلحات البلاغة العامة التي لم تنل بعد ما تستحقُّه من اهتمام من لدن الدارسين، ويأتي هذا الكتاب: “فاعلية التناسب البلاغي في انسجام الخطاب الشعري”، ليسد خصاصًا كبيرًا يتعلق بقراءة مفهوم التناسب برؤية جديدة، يمكن وضعها في مسار التجديد الذي شهدته البلاغة في العقود الأخيرة، قصد تخليصها من التحنيط الناجم عن تناولها وفق رؤية جزئية، تنظر للأساليب والصور بشكل منفصل عن سياقات الخطاب.

 

عرفتُ الباحث والبلاغي الشاب محمد حماني، منذ أكثر من عقد من الزمن باحثًا متمكنًا من التراث البلاغي، مدققًا في مفاهيمه، منفتحًا على ما يستجد في الدرس البلاغي واللساني، كثير التساؤل عن الإشكاليات التي تثيرها مدارسة التراث العربي، فكثيرًا ما كانت هذه الإشكاليات موضوع حوار جمعني بالباحث في عدة مناسبات. ويعد هذا الكتاب جوابًا عن إشكالية أساسية تتعلق بأهمية التناسب في اقتراح نظرية لتحليل الخطاب، يمكن أن تسعف الباحث المدقق، بقدر ما تسعف المتلقي والمتعلم في عملية الفهم الكلي للنصوص الشعرية والاستنباط السليم للمعاني والقيم والأساليب التي تتضمنها.

 

ويمكن القول إن الباحث محمد حماني قد أحسن الاختيار عندما جعل التناسب موضوع كتابه هذا، بالنظر إلى كون هذا الموضوع يضرب بجذوره العميقة في أرض البلاغة العامة في شقَّيها التخييلي والتداولي، فنحن نعلم أن أرسطو أثار مسألة التناسب، وألحَّ في كتاب “الخطابة” على ضرورة المناسبة، سواء على مستوى اللغة الواضحة الملائمة للخطاب الإقناعي، أم على مستوى الحجج التي تتنوَّع بتنوُّع الأنواع الخطابية وتنوع الجمهور الذي يختلف بدوره باختلاف الجنس والعمر والثقافة، والمنازع النفسية.

 

وانطلاقًا مما سبق يمكن القول إن أهمية هذا الكتاب نابعة من قيمتين أساسيتين:

1– قيمة معرفية، حيث يقدم الباحث تعريفًا ضافيًا لمصطلح التناسب، وما يرتبط به من مصطلحات، ويعيد الاعتبار للبلاغة العربية القديمة التي تطوَّر في أحضانها هذا المصطلح، قبل أن تسطو عليه لسانيات الخطاب الحديثة، وتدعي تجاوزها للسانيات البنيوية المرتبطة بالجملة، ويمكن أن نشير هنا- على سبيل المثال لا الحصر- إلى أعمال: دي بوجراند[1]، وهاليداي ورقية حسن، وإيزنبرج… إلخ[2].

 

إن المتفحص لكتب البلاغة العربية القديمة يلحظ بوضوح أن التناسب وما يرتبط به من مصطلحات كان له حضور واضح عند كثير من البلاغيين، حيث نجد الجاحظ يثير مفهوم التناسب، وما يرتبط به من مصطلحات من قبيل: النظم والتأليف والالتحام والاقتران… موجهًا نقده اللاذع للكلام المجزأ المتنافر، مستعيرًا له صفات قدحية، حين يشبهه في تفرقه بـــ: (بعر الكبش)، و(أولاد العلات)[3].

 

وإذ يربط الباحث التناسب بالقول الشعري، فإنه يسد ثغرة أخرى، ترتبط بما يتهم به الشعر العربي من انبنائه على الأبيات المفردة المستقلة، التابعة لتعدد الأغراض، المفتقدة للوحدة، حيث يستدعي الأمر مساءلة ما احتوى عليه التراث البلاغي من إضاءات في سبيل تشييد وحدة شعرية. ويكفي أن نذكر مثلًا إشادة الجرجاني بالشعراء المحدثين، وبقدرتهم على خلق تماسك منطقي/حجاجي في قصائدهم، وبتأكيده في نظرية النظم على مناسبة الألفاظ لسياق الجملة والخطاب، ومناسبة النظم للأغراض والمقاصد. كما نذكر بصياغة حازم القرطاجني لمصطلحات مركزية تصب في صلب نظرية التناسب من قبيل: التسويم والتحجيل والتفريع… بل ذهابه بعيدًا في دعوته للملاءمة بين الأوزان والمعاني، وتحري وحدة القصيدة، داعيًا الشاعر إلى أن ينتقل عبر أجزاء قصيدته: “من الشيء إلى ما يناسبه وإلى ما هو منه بسبب ويجمعه وإياه غرض. فكان الكلام بذلك مرتبًا أحسن ترتيب، ومفصلًا أحسن تفصيل، وموضوعًا بعضه من بعض أحسن وضع”[4].

وقد كان للأصوليين الفضل الكبير في تطوير مفهوم التناسب والمناسبة، حتى جعلوه علمًا مستقلًّا ينظر في تناسب آيات القرآن الكريم وسوره، ويكفي أن نذكِّر بعناوين كتبهم في هذا الباب (من قبيل كتاب: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور، للبقاعي، وكتاب: البرهان في تناسب سور القرآن، لابن الزبير…إلخ) لنقف على وعيهم العميق بأهمية التناسب في تحليل القرآن الكريم وبيان طرائق اتساقه وانسجامه المتحققة على مستوى الخطاب الكلي[5].

 

2- المسألة الثانية التي تبرز قيمة هذا الكتاب تكمن في إثارته للمسألة البيداغوجية/التعليمية، حيث جعل الباحث من مبحث التناسب مدخلًا ديداكتيكيًّا لتدريس النص الشعري، وقد بدا هذا الهم البيداغوجي واضحًا من خلال ربط الكتاب انطلاقًا حتى من عنوانه بين التناسب والانسجام، حيث إن انسجام النص يرشح بالعملية التأويلية التي ينجزها المتلقي، ولا يتحقق إلا عبر امتلاك كفايات معرفية تستطيع قراءة النص وفق طريقة منطقية تقوم على وسائل الالتحام، من قبيل: السببية، والعموم والخصوص، وتنظيم الموضوعات والأحداث والمواقف… ووفق خلفية معرفية محيطة بطبيعة الخطاب المقروء.

 

لقد نبَّه الباحث محمد حماني في هذا الكتاب إلى أن غياب استحضار مفهوم التناسب في المناهج التعليمية التي تقترحها الكتب المدرسية لتدريس النص الشعري يحول دون تمَثُّل المتعلمين للنص الشعري باعتباره خطابًا منسجمًا، وهذه مسألة تتجاوز مستوى ربط الشعر بالخطاب إلى جعل التناسب طريقة تدريسية تتوافق مع البيداغوجيات الحديثة، التي تقوم على عملية صهر المعارف والكفايات والمهارات، قصد جعل التعلم فعالًا، والمتعلم قادرًا على تجاوز إكراهات الخطاب إلى إكراهات الواقع، حيث لا يمكن حل المشكلات إلا عن طريق عدة معرفية تستطيع دمج كل الخبرات وفق مفهوم كلي، لا يستقيم دون القدرة على تحقيق التناسب والتلاؤم في أرقى تجلياتهما.

 

إن القراءة المنهجية التي تتدرج عبر مراحل: الملاحظة، والفهم، والتحليل، والتركيب، والتقويم، لا يمكنها أن تكون ناجعة في غياب إقدار المتعلمين على خلق تناسب بين كل هذه المراحل، والتدرُّج عبرها وفق منهجية كلية تربط الفرضيات بالنتائج، وتصهر الأساليب في المضامين والرؤى التي تعبر عنها نصوص الشعر في المناهج التعليمية. وهو ما تفتقده هذه المناهج، وهي ترسخ قراءة نمطية قائمة على الفصل بين المكونات، أكثر من الوصل بينها وتحقيق التناسب بين عناصرها.

 

على أن مسألة البحث عن التناسب في قراءة الخطاب الشعري، يمكن أن تذهب بعيدًا، حين نربطها بنظرية الأنساق، وما تبلور في الدراسات المعرفية من بحث في الأطر والمدونات والاستعارات التصورية التي تعد أحد فتوحات الفلسفة الحديثة، وهي تعيد تشييد الحقيقة على أرض شعرية استعارية. وهذا ما يجعل هذا الكتاب فاتحًا لآفاق جديدة في البحث، يمكن أن تمتد لإحياء كثير من مصطلحات البلاغة العامة، وجعلها أداة لتحليل الخطاب، وكشف أبعاده وفق رؤية كلية، تحقق مشروع حازم القرطاجني- الذي أسس علم البلاغة الكلي- القائم على خلق تناسب بين عدة حقول معرفية: بلاغية، ولسانية، ومنطقية، وفلسفية…، مستثمرًا قراءة الفلاسفة المسلمين لشعرية أرسطو، حيث حققوا مبدأ التناسب بين البلاغة الأرسطية والبلاغة العربية، وبين الشعر اليوناني الدرامي والشعر الغنائي العربي.


[1] دي بوجراند روبرت، النص والخطاب والإجراء، ترجمة تمام حسان، عالم الكتب، القاهرة، ط1، 1998، ص: 71.

[2] الشاوش محمد، أصول تحليل الخطاب في النظرية النحوية العربية تأسيس “نحو النص”، جامعة منوبة، كلية الآداب منوبة، تونس – المؤسسة العربية للتوزيع، بيروت، الطبعة الأولى، 1421هـ، 2001، ج 1 / ص: 109 – 110.

[3] الجاحظ، البيان والتبيين، تحقيق وشرح: عبدالسلام محمد هارون، مكتبة الخانجي، القاهرة، ط7، 1418 هـ، 1998، ج1/ ص: 66 – 67.

[4] القرطاجني، حازم أبو الحسن، منهاج البلغاء وسراج الأدباء، تقديم وتحقيق: محمد الحبيب ابن الخوجة، دار الغرب الإسلامي، بيروت، ط2، 1986، ص: 299.

[5] نستحضر هنا – على سبيل المثال – قول ابن الزبير، معرفًا علم المناسبة: “الأمر الكلي المفيد لعرفان مناسبات الآيات في جميع القرآن هو أنك تنظر الغرض الذي سيقت له السورة، وتنظر ما يحتاج إليه ذلك الغرض من المقدمات، وتنظر إلى مراتب تلك المقدمات في القرب والبعد من المطلوب، وتنظر – عند انجرار الحديث في المقدمات – إلى ما يستتبعه من استشراف السامع إلى الأحكام واللوازم التابعة له التي تقتضي البلاغة شفاء الغليل بدفع عناء الاستشراف إلى الوقوف عليها، فهذا هو الأمر الكلي المهيمن على حكم الروابط بين جميع أجزاء القرآن”. (ابن الزبير أحمد بن إبراهيم الثقفي، البرهان في تناسب سور القرآن، تقديم وتحقيق سعيد بن جمعة الفلاح، دار ابن الجوزي للنشر والتوزيع، المملكة العربية السعودية، 1428 هـ، ص: 68-69).





Source link

أترك تعليقا

مشاركة
The 10 Best Astrology Books in 2022, According to Astrologers – Business Insider
Best photo books 2021: Make & print an album online – iMore