فقه الغضب من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم (خطبة)


فقه الغضب من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم

المقدمة (الخطبة الأولى):

الحمد لله أنشأ الكون من عدم، وعلى العرش استوى، وأرسل الرسل وأنزل الكتب تبيانًا لطريق النجاة والهدى، أحمده جل شأنه وأشكره على نِعَمٍ لا حصر لها ولا منتهى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له يُرتجى، ولا ندَّ له يُبتغى، وأشهد أن نبينا وحبيبنا محمدًا عبدُالله ورسوله، الحبيب المصطفى والنبي المجتبى، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن سار على النهج واقتفى؛ أما بعد:

الغضب عند انتهاك حدود الله:

الغضب انفعال عاطفي طبيعي يعتري البشر جميعًا نتيجة قضايا داخلية متعلقة بالحالة النفسية أو نتيجة الظروف الخارجية، وإن منه ما هو محمود ومنه ما هو مذموم، وفي منهج سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم وتعامله مع مواقف الغضب خيرُ دليل إلى الصراط المستقيم؛ ومن ذلك:

حديث عائشة: ((ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا قط بيده، ولا امرأةً، ولا خادمًا، إلا أن يجاهد في سبيل الله، وما نِيل منه شيء قط، فينتقم من صاحبه، إلا أن يُنتهك شيء من محارم الله، فينتقم لله عز وجل))[1].

 

فهذا رسول الله يجعل غضبه لله لينال به الأجر من الله، فالدنيا بحذافيرها لا تستحق منا الغضب والانفعال والتضحية بصحتنا، وربما ديننا من أجلها.

 

يغضب لكنه يصبر على الأذى:

أخي الكريم، لا تَسْلَم وأنت في الحياة تمارس نشاطك مع غيرك من الأذى أو العدوان، بقول أو فعل، مما يستدعي حالة من الغضب الذي ليس منه مخرج مستقيم، إلا الصبر والتجاوز عن السفهاء والجاهلين وأصحاب الفتن.

 

ففي حديث عبدالله بن مسعود: ((لما كان يومُ حنينٍ آثَرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ناسًا في القسمة، فأعطى الأقرع بن حابس مائةً من الإبل، وأعطى عُيَيْنَةُ مثل ذلك، وأعطى أناسًا من أشراف العرب، وآثرهم يومئذٍ في القسمة، فقال رجل: والله إن هذه لَقِسْمةً ما عدل فيها، وما أُريد فيها وجه الله، قال: فقلت: والله لأُخبرنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فأتيته فأخبرته بما قال، قال: فتغيَّر وجهه حتى كان كالصِّرْفِ[2]، ثم قال: فمن يعدل إن لم يعدل الله ورسوله، قال: ثم قال: يرحم الله موسى، قد أُوذِيَ بأكثرَ من هذا فَصَبَرَ))[3].

 

تصبَّر النبي صلى الله عليه وسلم متأسيًا بنبيِّ الله موسى؛ ليعلم الناس أن المنهج مع هؤلاء السفلة هو الإعراض حتى لا يتلوث الرجل الكريم بوَحْلِ تصرفات مثل هؤلاء، الذين يُعَدُّون عراقيل ومنغصات في طريق الشرف والدعوة إلى الله.

 

يغضب لكنه لا يترك العدل:

ومهما كان مبرر الغضب لا يتعدى المرء على الآخرين، بل العدل مطلوب في الرضا والغضب، فالمؤمن يحكمه دين ويمنعه مخافة رب العالمين، بين جنبيه نور يهديه إلى الصراط المستقيم، والاقتداء بهدي سيد المرسلين؛ ففي حديث عروة بن الزبير: ((خاصم الزبيرُ رجلًا من الأنصار في شَرِيجٍ من الحَرَّة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اسْقِ يا زبير، ثم أرْسِلِ الماء إلى جارك، فقال الأنصاري: يا رسول الله، أنْ كان ابن عمتك؟ فتلوَّن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: اسقِ يا زبير، ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الْجَدْرِ، ثم أرسل الماء إلى جارك، واستوعى النبي صلى الله عليه وسلم للزبير حقَّه في صريح الحكم حين أحفظه الأنصاري، كان أشار عليهما بأمر لهما فيه سعة، قال الزبير: فما أحسب هذه الآيات إلا نزلت في ذلك: ﴿ فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ [النساء: 65]))[4].

 

أنْصَفَ صلى الله عليه وسلم الأنصاريَّ مرتين، صالح له بترك ما يستحقه الزبير فلم يرضَ وقال ما قال، وأرشد الزبير وذكَّره بحق الجيرة بعد أن يكتفي بأخذ حقه بأن يصرفه لجاره، ليبقى العدل سيد الموقف، وتاجًا على رأس سيد الثقلين صلى الله عليه وسلم.

غضبه رحمة:

وفي سياق قوله تعالى: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ﴾ [الأنبياء: 107]، نجد رحمته صلى الله عليه وسلم فاضت حتى بلغت من يكون سببًا في غضبه، أو أساء في الأدب معه بقول أو فعل؛ ففي حديث عائشة رضي الله عنها قالت: ((دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلان فكلَّماه بشيء، لا أدري ما هو، فأغضباه، فلعنهما، وسبَّهما، فلما خرجا، قلت: يا رسول الله، من أصاب من الخير شيئًا، ما أصابه هذان، قال: وما ذاك؟ قالت: قلت: لعنتهما وسببتهما، قال: أو ما علمتِ ما شارطتُ عليه ربي؟ قلت: اللهم إنما أنا بشر، فأيُّ المسلمين لعنته، أو سَبَبْتُه فاجعله له زكاةً وأجرًا))[5].

 

أي رحمة أعظم من هذه؟ سَرَتْ حتى بلغت من لعنه وسبه رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستوى فرحه وغضبه فكان رحمة للعالمين.

 

اللهم أدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين، واجعلنا من المستغفرين، فاستغفروا الله، إن الله غفور رحيم.

 

الخطبة الثانية

الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه سبحانه، وأشهد أن نبينا محمدًا عبدالله ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وإخوانه؛ أما بعد:

فإن الغضب قد يُخرِج الإنسان ويُوقعه في أمور بعيدة عن الحق والصواب؛ ولذا حثَّ الشرع على معالجة الغضب الفورية قبل اشتداده؛ ففي حديث سليمان بن صرد قال: ((استبَّ رجلان عند النبي صلى الله عليه وسلم ونحن عنده جلوس، وأحدهما يسب صاحبه، مغضبًا قد احمرَّ وجهه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إني لَأعلمُ كلمةً، لو قالها لذهب عنه ما يجد، لو قال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فقالوا للرجل: ألَا تسمع ما يقول النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: إني لست بمجنون))[6].

 

فإذا غلب الغضب على النفس، فإنه يحفز الجسد على العمل؛ لأنه جمرة أُلقِيَتْ في القلب تتَّقد لتحرك ما سكن، وأجملُ تصرفٍ والحال هذه ما ورد في حديث أبي سعيد الخدري؛ قال صلى الله عليه وسلم: ((وإن الغضب جمرة في قلب ابن آدم، أمَا رأيتم إلى حُمْرَةِ عينيه، وانتفاخ أوداجه، فمَن أحسَّ بشيء من ذلك، فلْيَلْصَقْ بالأرض))[7].

 

فإذا حدث التصرف وانقضى، فلا يمنعك الرجوع إلى الحق، فالرجوع للحق خير من التمادي في الباطل؛ يقول أبو موسى الأشعري: ((أتيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم في رَهْطٍ من الأشعريين أستحمله، فقال: والله لا أحملكم، ما عندي ما أحملكم، ثم لبثنا ما شاء الله فأُتِيَ بإبلٍ، فأمر لنا بثلاثة ذَوْدٍ، فلما انطلقنا قال بعضنا لبعض: لا يبارك الله لنا، أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم نستحمله فحلَف ألَّا يحملنا فحملنا، فقال أبو موسى: فأتينا النبي صلى الله عليه وسلم فذكرنا ذلك له، فقال: ما أنا حملتكم، بل الله حملكم، إني والله – إن شاء الله – لا أحلف على يمين، فأرى غيرها خيرًا منها، إلا كفَّرت عن يميني، وأتيت الذي هو خير))[8].

 

فالمراد أن نجعل غضبنا لله، وأن نصبر على الأذى لوجه الله، وأن نتبع العدل لنَيلِ رضا الله، وأن نعالج أنفسنا عند الغضب لنيل رحمة الله.

 

الدعاء:

اللهم إنا نسألك موجبات رحمتك، وعزائم مغفرتك، والسلامة من كل إثم، والغنيمة من كل بِرٍّ، والفوز بالجنة، والنجاة من النار.

 

يا حي يا قيوم، برحمتك نستغيث، اللهم أصلح لنا شأننا كله، ولا تكِلنا إلى أنفسنا طرفة عين، ولا أقل من ذلك.

 

﴿ رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ ﴾ [آل عمران: 8].

 

﴿ رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ * رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ ﴾ [آل عمران: 193، 194].

 

اللهم اجعل هذا البلد آمِنًا رخاء سخاء وجميع بلاد المسلمين يا رب العالمين، اللهم إنا نسألك لولاة أمورنا الصلاح والسداد، اللهم كُنْ لهم عونًا، وخُذْ بأيديهم إلى الحق والصواب، والسداد والرشاد، ووفِّقهم للعمل لِما فيه رضاك، وما فيه صالح العباد والبلاد.

 

اللهم صلِّ وسلم على النبي المصطفى والرسول المجتبى، وعلى آله وأصحابه معادن التقوى، وينبوع الصفا، صلاة تبقى، وسلامًا تترى.

 

سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.


[2] الصِّرْف: هُوَ بِالْكَسْرِ شَجَرٌ أَحْمَرُ يُدْبغ بِهِ الأديمُ؛ [النهاية في غريب الحديث والأثر، ابن الأثير].

[3] البخاري ومسلم.

[4] صحيح البخاري.

[5] رواه مسلم (2600).

[7] ابن حجر العسقلاني، الأمالي المطلقة (169)، حسن، وصححه السيوطي في الجامع الصغير.

[8] أخرجه البخاري (6623)، ومسلم (1649).





Source link

أترك تعليقا

مشاركة
The Dressmaker of Khair Khana – Council on Foreign Relations
10 must-read books about the Palestinian struggle – The New Arab