كيف تعظم الذنوب


كيف تعظم الذنوب

 

اعلم أن الذنوب تكبر بأسباب:

1- منها الإصرار والمواظبة: ولذلك قيل لا صغيرة مع إصرار، ولا كبيرة مع استغفار.

 

2- ومنها أن يستصغر الذنب: فإن الذنب كلما استعظمه العبد من نفسه صغر عند الله تعالى وكلما استصغره كبر عند الله تعالى لأن استعظامه يصدر عن نفور القلب عنه، وكراهيته له. وذلك النفور يمنع من شدة أثره به واستصغاره يصدر عن الأُلف به، وذلك يوجب شدة الأثر في القلب، والقلب هو المطلوب تنويره بالطاعات والمحذور تسويده بالسيئات، وقد جاء في الأثر: ” المؤمن يرى ذنبهُ كالجبل فوقه يخاف أن يقعَ عليه، والمنافق يرى ذنبه كَذُبابٍ مرَّ على أنفه فأطاره”؛ (رواه البخاري).

 

3- ومنها السرور بالذنب والفرح والتبجح[1]: واعتداد التمكن من ذلك نعمة، والغفلة عن كونه سبب الشقاوة، فكلما غلبت حلاوة الذنوب عند العبد كبرت المعاصي وعظم أثرها في تسويد قلبه، حتى إن من المذنبين من يمتدح بذنبه ويتبجح به، لشدة فرحه بمقارفته[2] إياه، كما يقول: أما رأيتني كيف مزقتُ عرضه؟ وكيف ذكرتُ مساويه حتى أخجلتهُ؟ وكيف استخففت به؟ وكيف لبَّست عليه؟ ويقول المعامل في التجارة: أما رأيت كيف روّجت عليه الزائف؟ وكيف خدعته؟ وكيف غبنته في ماله؟ وكيف استحمقته؟ فهذا وأمثاله تكبر به الذنوب، فإن الذنوب مهلكات، وإذا دُفع العبد إليها، وظفر الشيطان به في الحمل عليها، فينبغي أن يكون في مصيبة وتأسف بسبب غلبة العدو عليه، وبسبب بعده من الله تعالى. فالمريض الذي يفرح بأن ينكسر إناؤه الذي فيه دواؤه حتى يتخلص من ألم شربه، لا يُرجى شفاؤه.

 

4- ومنها أن يتهاون بستر الله عليه: وحلمه عنه، وإمهاله إياه، ولا يدري أنه إنما يُمهل مقتًا ليزداد بالإمهال إثمًا، فيظن أن تمكنه من المعاصي عناية من الله تعالى به، فيكون ذلك لأمنه من مكر الله، وجهله بمكامن الغرور بالله، كما قال الله تعالى: ﴿ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ ﴾ (المجادلة: 8).

 

5- ومنها أن يأتي الذنب ويظهره بأن يذكره بعد إتيانه: أو يأتيه في مشهد غيره، فإن ذلك جناية منه على ستر الله الذي سدله عليه وتحريك لرغبة الشر فيمن أسمعه ذنبه، أو أشهده فعله. فهما جنايتان انضمتا إلى جنايته، فغلظت به، فإن أضيف إلى ذلك الترغيب للغير فيه والحمل عليه، وتهيئة الأسباب له، صارت جناية رابعة، وتفاحش الأمر. وفي الحديث: ” كلُّ أمتي معافى إلا المجاهرين”؛ (متفق عليه).

 

المسلم إذا أذنب ذنبًا ولم يجهر به ستره الله عليه وأمره إلى الله تعالى، وهذا لأن من صفات الله ونعمه أنه يظهر الجميل ويستر القبيح، ولا يهتك الستر، فالإظهار كفران لهذه النعمة.

 

وقال بعضهم: لا تذنب، فإن كان ولا بد فلا تُرغّب غيرك فيه فتذنب ذنبين: ولذلك قال تعالى: ﴿ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ ﴾ [التوبة:61].

 

وقال بعض السلف: ما انتهك المرء من أخيه حرمة أعظم من أن يساعده على معصية، ثم يُهونها عليه.

 

6- ومنها أن يكون المذنب عالمًا يُقتدى به: فإذا فعله بحيث يُرى ذلك منه كبر ذنبه، كإطلاق اللسان في الأعراض وتعديه باللسان في المناظرة، وقصده الاستخفاف، واشتغاله من العلوم بما لا يقصد منه إلا الجاه، كعلم الجدل والمناظرة فهذه ذنوب يُتَّبَعُ العالم عليها، فيموت العالم ويبقى شرُّه مستطيرًا في العالم آمادًا متطاولة، فطوبى لمن إذا مات ماتت ذنوبه معه؛ قال تعالى: ﴿ وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ ﴾ [يس: 12].

 

والآثار ما يلحق من الأعمال بعد انقضاء العمل والعامل. (انظر إحياء علوم الدين للغزالي) “بتصرف بسيط”.

 

تنبيه مهم:

أقول: إن ما ذكره الغزالي صحيح، ولكن هل وقع الغزالي في كتابه فيما حذَّر منه؟

الجواب: نعم، فقد قال في كتابه كلامًا خطيرًا سيتحمل وزره؛ من ذلك ما ذكره تحت عنوان: (باب حكاية المحبين ومكاشفاتهم)؛ حيث ذكر هذه القصة: قال أبو تراب يومًا: لو رأيت أبا يزيد: فقال له صديقه: إني عنه مشغول، قد رأيت الله تعالى فأغناني عن أبي يزيد! قال أبو تراب: ويلك تغتر بالله عز وجل! لو رأيت أبا يزيد (البسطامي) مرة واحدة كان أنفع لك من أن ترى الله سبعين مرة!!

 

ثم قال الغزالي: فأمثال هذه المكاشفات لا ينبغي أن ينكرها المؤمن. [انظر: إحياء علوم الدين ج 4/ 365].

 

أقول للغزالي: بل يجب على المؤمن أن ينكرها لأنها كذب، وكفر، فالله تعالى لم يره أحد في الدنيا لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنكم لن تروا ربكم عز وجل حتى تموتوا)؛ رواه مسلم.

 

والقول: بأن رؤية أبا يزيد البسطامي أنفع من رؤية الله زندقة وكفر؛ فكيف يجوز للغزالي أن يذكر هذه الخرافات، وكيف يجوز أن يلقب الغزالي بحجة الإسلام، والإسلام بريء من أقواله السابقة، وقد أمر الخليفة ابن تشفين بإحراق كتاب إحياء علوم الدين لوجود أباطيل كثيرة فيه، فليحذر القارئ هذا الكتاب، ولا يأخذ منه إلا ما وافق الكتاب والسنة.


[1] التبجح: الفخر.

[2] مقارفته الذنوب: مباشرتها وإرتكابها.





Source link

أترك تعليقا

مشاركة
تحميل كتاب السياسات النقدية والمالية وأداء سوق الأوراق المالية pdf
طبعة جديدة من كتاب حماية الشعوب فى زمن الحروب للمستشار خالد القاضى