مقدمة بين يدي مدارسة كتاب الشمائل المحمدية للإمام الترمذي رحمه الله


مقدمة بين يدي مدارسة كتاب (الشمائل المحمدية) للترمذي رحمه الله

 

والشمائل: علم من علوم السيرة.

 

‏والشمائل يُراد ويُقصَد بها: الصفة الخِلْقِيَّة والخُلُقِية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا أردت أن تعرف كثيرًا عن النبي صلى الله عليه وسلم، فعليك بمطالعة هذا الكتاب، وقراءته قراءة متأنية، أو سماعه.

 

‏فنحن بين يدي دراسة كتاب عظيم في باب من أشرف أبواب العلم؛ ألَا وهو: شمائل النبي صلى الله عليه وسلم، وخصاله، وصفاته الشريفة.

 

‏دراسة شمائل أفضل عباد الله وأزكاهم، وأحبهم إلى الله عز وجل، خليل الله، ومصطفاه، ومجتباه صلى الله عليه وسلم؛ فهو أكمل عباد الله وأزكاهم خُلُقًا، وأحسنهم نفسًا، وأحسنهم معاملة، وأعظمهم معرفة لله تعالى.

 

‏اختاره الله تعالى ليكون رسولًا نبيًّا لهذه الأمة، وخصَّه سبحانه وتعالى بأكمل صفات البشر من حيث الخِلْقَةِ والخُلُق.

 

‏وجعله أسوة حسنة للعالمين، وقدوة لعباد الله أجمعين؛ كما قال تعالى: ﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ﴾ [الأحزاب: 21].

 

‏ولهذا يتأكد على كل مسلم أن يُعنى بدراسة سيرته وشمائله صلى الله عليه وسلم.

 

فإن قال قائل: ما الفائدة من مدارسة كتب الشمائل؟ نقول: ففي دراسة شمائله وخصاله صلى الله عليه وسلم فوائد عظيمة؛ منها:

1- أن من واجبات أهل الإيمان: الإيمان به صلى الله عليه وسلم، والإيمان به لا يكون إلا بمعرفته، وكلما ازدادت المعرفة، ازداد الإيمان به، وازداد العبد في الاتِّباع له.

 

2- أن محبته صلى الله عليه وسلم واجبة، وافترضها الله تعالى على عباده، بل إنه يجب أن تقدم محبته على محبة الوالد والولد والناس أجمعين، بل على النفس.

 

ولا شك أن معرفته صلى الله عليه وسلم، ومعرفه شمائله وخصاله مما يزيد القلب حبًّا له، وتعظيمًا وإجلالًا، ومعرفة لقدره العظيم ومكانته العلِيَّة؛ فالوصف الخُلُقي يزيد القارئ أو السامع محبة للموصوف، فإذا أحببتَ شخصًا ثم وُصِفَ لك، فلا شك أنه سيزيد هذا الحب والشوق له.

 

3- أن معرفته صلى الله عليه وسلم من أعظم الأمور التي تزيد الإيمان، بل إنها من أعظم الأمور التي توجب الإيمان في حقِّ مَن لم يؤمن به، وزيادة الإيمان في حق من آمن به.

 

قال الله تعالى: ﴿ أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ ﴾ [المؤمنون: 69]؛ أي: إن معرفته صلى الله عليه وسلم موجبة وسبب للإيمان في حقِّ من لم يؤمن به.

 

‏فما أن يراه ويرى هديه وسلوكه، إلا ويتحول من ساعته إلى أحب الناس إليه منه؛ كما قال ثمامة بن أثال حين أسلم: ((يا محمد، والله ما كان على وجه الأرض أبغض إليَّ من وجهك، فقد أصبح وجهك أحب الوجوه كلها إليَّ)).

 

4- أن الوصف الخِلْقِيَّ يزيد الشوق إلى رؤياه في جنات النعيم.

 

5- أن الله عز وجل جعله قدوة للعباد، وأسوة للناس، وأمر باتباعه، والسير على منهاجه؛ كما قال تعالى: ﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ﴾ [الأحزاب: 21]، وقال تعالى: ﴿ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾ [الحشر: 7]، وقال تعالى: ﴿ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [آل عمران: 31].

 

وهذه المتابعة له صلى الله عليه وسلم فرع عن معرفته، ومعرفة خصاله، وخِلالِهِ وشمائله صلى الله عليه وسلم.

 

6- أن في نقل الشمائل النبوية دليلًا من أدلة كثيرة على عناية الصحابة رضي الله عنهم، وعدالتهم، وحرصهم على نقل ما يتعلق بأمور النبي صلى الله عليه وسلم.

 

وتأمل إلى قول أحدهم: (ثم شبَّك بين أصابعه).

‏ (ثم ضحك حتى بدت نواجذه).

‏بل ونقلوا لنا عدد الشَّيب في شَعْرِه صلى الله عليه وسلم.

 

7- في نقل تلك الأوصاف الخِلْقِيَّة الدقيقة؛ كصفات حاجبيه، ومَنْكِبيه، ومن حيث الطول والقصر، ومن حيث مشيته، ومن حيث وصف عرقه…؛ إلخ.

 

لعل هذا يُقال: إنه من معجزات هذه الأمة، فلم يحظَ بها بَشَرٌ غيره.

 

‏قال أحد القادة العسكريين الفرنسيين: “كنت لا أزال أتعجب كلما قرأت فهرس كتاب الشمائل للترمذي، ورأيت النقول الجزئية الدقيقة لأوصاف محمد صلى الله عليه وسلم، ثم قال: إن رؤساء العالم يكون معهم صحفيون ومصورون، ونقلة لأخبارهم، ومع هذا كله ما يفوت من أخبارهم أكثر مما نسمع ونرى، بينما محمد رسول المسلمين صلى الله عليه وسلم نُقِلت عنه أشياء قد تكون الصحافة مجتمعة تعجز عن نقله، ويكفيك وصف النبي صلى الله عليه وسلم عند قضاء حاجته، ووصف وجهه عند غضبه، وعند سروره، وعند بكائه”.

 

8- زيادة غِبْطَةِ الصحابة على تنعُّمهم بالجلوس معه، ورؤيتهم له، ومن ثَمَّ نقل أخباره، ولا ينقل هذه الأخبار الجزئية إلا من يتلذذ باتباع ومحبة من ينقل أخباره.

 

9- فرح المسلم واغتباطه إذا كان فيه شَبَهٌ من أوصاف النبي صلى الله عليه وسلم.

 

وذكر العلماء: أنهم أحصَوا قرابة عشرة أو أكثر ممن يشبهون النبي صلى الله عليه وسلم؛ منهم: الحسن، والحسين، ومصعب بن عمير، وجعفر بن أبي طالب، رضي الله عنهم.

 

10- تخيُّل تلك الأوصاف الخلقية تُقرِّب إلى رؤية النبي صلى الله عليه وسلم في المنام.

 

فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((من رآني في المنام فقد رآني؛ فإن الشيطان لا يتمثل في صورتي)).

 

‏قال العلماء: إن رؤيا الرسول صلى الله عليه وسلم في المنام ممكنة، على الوجه الذي ورد في شمائله صلى الله عليه وسلم من طوله، ولونه، وهيئته، ولحيته، وغير ذلك.

 

‏وهذا الباب قد زلَّت فيه أقدام، وضلَّت فيه أقوام، فكم من أُناسٍ ادَّعَوا رؤيته صلى الله عليه وسلم، وهم كاذبون.

 

‏وقد جاء رجل لابن عباس رضي الله عنهما فقال: “إني رأيت النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له: صف لي من رأيت، فلما وصفه له، قال ابن عباس رضي الله عنهما: لو كنت رأيت النبي صلى الله عليه وسلم لَما زِدتُ على هذا الوصف”.

 

‏وجاء رجل إلى محمد بن سيرين، فقال: “رأيت النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: كيف رأيته؟ قال: رأيته أشبه الناس به الحسن، فقال له: قد رأيته”.

 

‏ولذلك قال العلماء: كل من قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم، يُنظَر في الأوصاف التي ذكرها، هل تطابق أوصاف الشمائل أم لا؟

 

‏ولهذا من صنيع المصنف رحمه الله: أنه بدأ الكتاب بذكر صفات النبي صلى الله عليه وسلم الخِلْقِيَّة، ثم ختم الكتاب بالرؤية، ومن ضابط هذه الرؤية العلمُ بصفاته صلى الله عليه وسلم.

 

11- أضِفْ إلى ذلك: أن هذه الأبواب مشتملة على كثير من المسائل الفقهية، والآداب السلوكية، والفوائد الأخلاقية، التي يحتاج المسلم لمعرفتها والتأسي بها.

 

12- وكذلك الإكثار من الصلاة والسلام عليه، صلى الله عليه وسلم.

 

وهذا الكتاب الذي سنتدارسه هو من أنفع الكتب التي صُنِّفت في شمائل النبي صلى الله عليه وسلم، وهو من أقدم المؤلفات التي أُلِّفت في هذا الباب.

 

‏وقد جمع فيه الإمام الترمذي رحمه الله الأحاديث، ورتَّب أبوابه ترتيبًا بديعًا، وجمعه جمعًا مختصرًا؛ فهو كتاب ليس بالطويل الممل، ولا بالقصير المخِلِّ.

 

‏قال النووي رحمه الله: “كتاب وحيد في بابه، وفريد في ترتيبه وأبوابه”.

 

‏ومؤلفه هو: الإمام أبو عيسى محمد بن عيسى بن سَورة الترمذي رحمه الله، صاحب السنن، المولود سنة: 209 هـ، والمتوفى سنة: 279 هـ.

 

وقد رتَّب أبواب هذا الكتاب ترتيبًا بديعًا، فجعله في ستة وخمسين بابًا، وجمع فيه 415 حديثًا.

 

‏واختصره الشيخ الألباني رحمه الله في تحقيق الكتاب إلى 352 حديثًا بعد حذف الأحاديث الضعيفة.

 

‏وبدأ أول ما بدأ بذكر صفات النبي صلى الله عليه وسلم الخِلْقِيَّة من حيث: طوله، ولون بشرته، وذكر شعره، وصفة وجهه، إلى غير ذلك من صفاته الخلقية.

 

‏ثم بعد ذلك انتقل إلى الكلام عن حاجياته، ومقتنياته، ومتاعه صلى الله عليه وسلم؛ فذكر ما يتعلق بسيفه، ولباسه، وغير ذلك.

 

‏ثم بعد ذلك انتقل للكلام عن شمائله، وأخلاقه، وآدابه، ومعاملاته صلى الله عليه وسلم.

 

‏ثم ذكر طعامه وشرابه.

‏ثم ذكر عباداته، وأخلاقه.

 

‏إلى أن ختم الكتاب: برؤيته صلى الله عليه وسلم في المنام، وضوابط هذه الرؤية، ومدى مصداقيتها إن كانت وقعت للعبد.

 

‏والكتاب اسمه: (شمائل النبي صلى الله عليه وسلم) وقد يختصره البعض بـ(الشمائل للترمذي)، وبعض المتأخرين أضاف: (الشمائل المحمدية).

 

وإلى لقاء آخر مع أول باب من أبواب كتاب (الشمائل المحمدية) للترمذي رحمه الله.

 

نسأل الله العظيم أن يرزقنا حب النبي صلى الله عليه وسلم، ويجمعنا به في أعلى درجات الجنة.





Source link

أترك تعليقا

مشاركة
الكِتاب الورقي.. والتحدي الرقمي! – الاتحاد للأخبار
بشعار “شغفك له كتاب”.. معرض الكويت الدولي للكتاب ينطلق في دورته الـ46 | ثقافة