نعم أنت لحظة من فضلك


نعم أنت لحظة من فضلك

 

بينما تسير في الطريق منشغلًا، ربما يستوقفك مَن لا تعرفه فتقف.

 

ربما تنفق مالًا، أو تقدم مساعدة، أو تُسدِي نصيحة.

 

وربما تقف لتزجر مَن استوقفك.

 

آخر الأمر أن وقوفَك هذا إما سيكون لك أو عليك.

 

إن الإنسان المسلم في حياته كالسائر في طريق، لديه مشاغله وشواغله، ولديه غاياته ووسائله، ثم بينما هو يسير نحو مقاصده لا يرده عنها رادٌّ، تستوقفه آية أو حديث، أو كلمة وعظ عارضة؛ فيكون وقوفه عندها مبدأ الخير كله بالنسبة له، ومنتهى الشر كله.

 

إن المسلم تأتيه رسائل تلو الرسائل، ويستوقفه نداء تلو نداء: ﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ ﴾ [التوبة: 115].

 

ثم في وسعه أن يقف، وفي وسعه أن لا يَلتَفِت.

 

إن الله – تعالى – يستوقف عباده كل حين بنداء يأتيهم من حيث لا يحتسبون؛ لأن الله – تعالى – يراقب عباده، وهذا من مقتضى صفة الربوبية، ومن آثارها الطيبة؛ فالتربية التي هي من معاني الربوبية تقتضي المتابعة والمعاهدة، والنفس الإنسانية شيء من الأشياء، ومن طبيعة الأشياء أن الحبل إذا استطال استرخى، وأن الأمر إذا طال حال.

 

وآيات القرآن تؤسس لهذه الحقيقة: ﴿ بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ ﴾ [الأنبياء: 44].

 

فالإنسان إذا استغرقتْه النعمة، نَسِي المُنعِم، وأشاح عمن لا نعمة له!

 

﴿ أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ ﴾ [طه: 86]؛ قول موسى – عليه السلام – لقومه.

 

إن الإنسان إذا طال عليه الزمان دون اتصال بموارد الإيمان، كان أقرب لموارد الكفر والفسوق والعصيان.

 

﴿ أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ ﴾ [الحديد: 16].

 

هذه آية جامعة: طال عليهم الأمد فقَسَتْ قلوبهم، ولماذا لا تقسو، وليس فيها تجديد للإيمان، ولا معاهدة للنفس؟ صارت العبادة عادة، ثم تُرِكتْ لعادات أخرى أخفَّ على النفس، وأشد راحة للبال.

 

ولكن هذه الآية تحمل تحذيرًا ولومًا جليلين عظيمين.

 

إن الله – تعالى – يبيِّن حقيقة، ويحذِّر من مغبَّة الوقوع فيها، ويتعاهد عباده بالرسائل تلو الرسائل، والنداءات تلو النداءات؛ ليُوقِف عبده السائر في الطريق دون أن يلوي على شيء، غير ملتفتٍ إلا إلى منافع دنياه، ومقاصد نفسه وأهله وذَوِيه.

 

إنها حقيقة الاجتيال عن السبيل الرشيد بدوافع النفس والشيطان.

 

وإن الله – تعالى – لا يترك عباده بدءًا دون تبصير، ولا خلال حياتهم دون تذكير.

 

فمَن يحسن الوقوف ليلبِّي نداء الله – تعالى – عليه، ويحسن قراءة رسالته إليه؟!

 

أنت أخي القارئ:

إن الله – تعالى – لا بد أن يكون اختارك مرارًا دون السائرين في الحياة حولك، اختارك ليخصَّك بالنداء تلو النداء؛ لتقترب منه وتفر إليه.

 

إن الإنسان الذي يستوقف أحد المارَّة ليُعِينه أو ليعطيه، لا بد أنه يتوسَّم فيه الخير، ولولا ذلك ما استوقفه، والله – تعالى – ما أرسل إليك رسالة خفية، ولا استوقفك بنداء دون آخرين، إلا لما في قلبك من الخير كذلك.

 

كم نحتاج ويحتاج الناس إلى أن نقف في طريق الحياة.

 

نعيد ترتيب أولوياتنا.

 

ونعيد تمحيص أفكارنا.

 

ونعيد تبصير أنفسنا بغاياتنا ووسائلنا.

 

إن الإنسان الذي يغفل عن نفسه، تتبدَّل أولوياته شيئًا فشيئًا، وتتبدَّل أفكاره شيئًا فشيئًا، وتتبادل غاياته ووسائله المكان والمكانة، فتراه صار منشغلًا بغير ما كان ينشغل به وهو فارغ من الأبناء ومسؤوليات الأهل، وتراه يَقبَل ما لم يكن يقبل، ويلين لمبدأ مخالف كما لم يكن يلين، ويسلك للوسائل ما كان يسلك للغايات!

 

هذا الإنسان – الذي هو أنا وأنت قبل أي أحد آخر – لا بد أن يقف في طريقه مرة؛ ليُعِيد الالتفات لما صار يمر عليه ولا يلتفت إليه.

 

إن كثيرًا من مشكلات حياتنا مَرَدُّها إلى هذه الحقيقة؛ لأن الإنسان إذا تغيَّر تغيَّرتْ نعمة الله عليه، فاستُبْدِلتْ بقدر ما استَبْدَل، وانتُقِصَت بقدر ما انتَقَص: ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ [الأنفال: 53].

 

إن هذه الكلمات أحد النداءات.

 

إنها أحد النداءات العابرة لك – أخي الكريم – إنها دعوة للوقوف مع النفس، والتوقف عن الانحدار، ومعاودة الصعود إلى الله – تعالى.

 

إنها دعوة للرجوع إلى أيام الشباب الجميلة، المزينة بالطاعة، الدافئة بالعبادة، الصافية من كل شوب وكدر.

 

دعوة للتغيير؛ تغيير الأفكار، والسلوك، والعادات، وأساليب الحياة.

 

دعوة لتغيير المظهر وتغيير الجوهر.

 

دعوة للحياة بلذَّة الرضا عن الله – تعالى – ورضا الله تعالى عنا.

 

والرجوع بسفينة الحياة إلى مرفأ الهُدَى.

 





Source link

أترك تعليقا

مشاركة
أجر أعظم مما يخطر بالبال ويدور بالخيال
نصائح رمضانية (خطبة)