هل هناك بدائل عن وجود المربي؟


هل هناك بدائل عن وجود المربّي؟

 

في ظلّ تزايد قنوات الدعوة من فضائيات وشبكات إنترنت وكتب ومجلات وغير ذلك من وسائل دعوية.. في ظلّ كلّ هذا هل يمكن الاستغناءُ عن وجود المربّي القائد؟ وإحلال تلك الوسائل الدعوية مكانه؟

 

هل يمكن الاستغناء عن الموجِّه الناصح، داعيةً كان أو طالبَ علم سبق على الطريق وجُمِع له من العلم والدراية الواقعية ما يفيد به غيره؟

 

لا يمكن الإجابة عن هذا السؤال المهم قبل الإشارة إلى أثر المربّي –وما ينوب عنه- وعمله في الواقع، وقبل الإشارة كذلك لتلك الوسائل الدعوية وعملها في الواقع، بل وقبل كلّ هذا الإحاطة بحال الواقع الديني في المجتمعات المسلمة المتفاوتة.

 

الواقع والدين:

أما الواقع نفسه فهو أن مفهوم الدين والالتزام به لم يعد أمرًا ميسورًا في غالبية المجتمعات المسلمة، إن لم نقل كلّها، فما يَجهلُه المسلمون عن دينهم أكثرُ مما يعرفون، فضلا عن تفشي التصورات والمفاهيم المخالفة للتصورات والمفاهيم الشرعية أو المضاهية لها، مع ما ابتُلِيت به تلك المجتمعاتُ من عوامل هدّامة على الجانبينِ الديني والدنيوي.

 

وفي هذا الواقع يُولَد المسلم ويتلقى مفاهيمَه الدينية وثقافته المعيشية، ثم في هذا الواقع أيضًا يولد ولادة جديدة، ولادة بتوجّه آخر جديد، توجّه ديني كامل، يحيا به لإسلامه وحده، ثم يبدأ رحلة المصادمات الكثيرة والعنيفة، فأولُ ما به يصطدم نفسُه التي بين جنبيه، ثم مجتمعه؛ فهو ابن بيئته الأولى التي اختلط فيها صحيحُ المفاهيم بسقيمها، وصحيح الأعمال برديئها.

 

فيعاني في رحلة تحرّره من مفاهيمه القديمة في بيئته الأولى، ثم يعاني في سلوكه على مفاهيمه الجديدة الأصيلة، يعاني مع نفسه التي لم تعتد الحياة الجديدة، الحياة على الدين وبالدين وللدين، ويعاني في مجتمعه الذي هو غريب عن مفاهيمه الشرعية الخالصة، مجتمعه الذي يجتذبه بزخارفه تارة ويعارضه بالقوة تارات أُخر.

 

هذا هو غالبًا واقع المسلم في المجتمعات المعاصرة، ثم واقعه بعد التزامه بدين الله لا دين مجتمعه، ثم معاناته الممتدّة والمستمرة كعبد مكلّف، وكمسلم يحيا صراع أمته مع قوى الدنيا المختلفة.

 

وهكذا تبدأ التحديات الصعبة منذ أول يوم يلتزم فيه المسلم بدينه، تلك التحديات التي لم تكن من قبل بنفس تلك الضخامة التي هي عليها اليوم، مصداقًا لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يأتي عليكم زمانٌ إلا الذي بعده شرٌّ منه حتى تلقوا ربكم) [أخرجه البخاري عن أنس]، وقوله صلى الله عليه وسلم: (إن من ورائكم زمانَ صبر، للمتمسك فيه أجر خمسين شهيدًا منكمفقال عمر: يا رسول الله منا أو منهم؟ قال: (منكم) [أخرجه الطبراني في الكبير عن ابن مسعود وصححه الألباني في صحيح الجامع].

 

أثر المربّي القائد:

من واقع حال المجتمعات المعاصرة تكمن أهمية وجود المربّي القائد، الذي يوجّه المسلم بعد ولادته الثانية، ويرعى دينه، بصناعة تصوراته ومراقبة سلوكه، حتى يستوي المربَّى على سوقه ويباشر أمره بنفسه، كما يُربَّى الصغير ثمّ تُرفع عنه الوصاية تدريجيًّا، مع اختلاف الصورتينِ والأسلوبينِ.

 

فالمربّي القائد القريب من المربَّى عادة ما يفهم نفسية المربَّى وشخصيته، كما يطلع على محيطه الأسري والاجتماعي، وإمكانياته الحسية والمعنوية، فيعرف منه وفيه مداخل الخير ومكامنه، كما يعرف موارد الآفة وأسبابها، ومن هنا يقدر المربّي على مهمته الصعبة الشاقة، بعد أن اقترب من المربَّى واقترب منه المربَّى.

 

وقد يظن بعض الناس أن توصيفنا لأثر المربِّي بتلك الصورة مبالغة زائدة، أو ليس بتلك الحاجة والضرورة، وأن المسلم قادر بعد التزامه في تلك المجتمعات على تخطي تلك العقبات كلّها وحده، أو بتوجيه دعوي عام، عبر التعلم والتوجيه المقروء أو المسموع، ويستدلون على رؤيتهم تلك بأن إلزام المربَّى بالمربِّي لم يكن أمرًا مطردًا في القرون الأولى.

 

فهذا التوصيف ربما كان مبالغة لا داعي لها لو أن واقع المجتمعات المسلمة اليوم شبيه بمجتمعات المسلمين المتقدّمة، أمّا بعد أن اختلفت في الجوهر والشكل اختلافًا بيّنًا فلا يصح القياس عندئذ، فلقد كان المجتمع نفسه يدعم التربية، ثم الأسرة كذلك.

 

ثم لم تكن عوائق الالتزام بشرع الله كما هي عليه اليوم في مجتمعاتنا، لهذا كلّه لم تكن ثَمّ حاجة للتربية الفردية الخاصة في المجتمع المسلم الذي صُبغ صبغة كاملة بالإسلام.

 

كما لا ينبغي أن نعمّم حالات خاصة استطاعت أن تقف في وجه كلّ التحديات وتبرز بلا مربٍّ يقودها، على أن تلك الحالات الخاصّة إنما استعاضت ببدائل عن وجود المربِّي لما فقدته أو لم تهتدِ إليه، أقلّ تلك البدائل الوقت والجهد الطويلانِ الشاقّانِ، واللذانِ من أهداف وجود المربِّي الأُولى توفيرهما وحفظهما على المربَّى.

 

الوسائل الدعوية العامّة:

هذه الوسائل تتسم غالبًا بالخطاب الدعوي الوعظي، أو العلمي، وقليلا ما تحمل خطابًا تربويًّا، وإن حضر الخطاب التربوي العام ففي قوالب الإجمال والعمومية؛ لأن الخطاب التربويّ يحتاج لمؤهلات لا تتوفّر عادة في الخطاب الجماعي الجامع لصنوف مختلفة متفاوتة من المدعوّين.

 

أهمّ تلك المؤهلات في الخطاب التربويّ معرفة حال المخاطَب، حاله النفسي، وحاله الديني، وحاله الاجتماعي.. وهذا ما لا يتسنّى في الخطاب العامّ، للإجمال والعمومية فيه، ولهذا يقل جدًّا في الخطاب العام صناعة القدوات العلميّة أو الدعويّة، وهذا ليس تقليلا من شأن الخطاب الدعوي العامّ والحاجة إليه، بل وضرورته في الواقع، وكم كسبت الدعوة الإسلامية من وراء الخطاب العام القائم به الدعاة في شتى القنوات المتاحة لهم، فهو أصل الدعوة الأول.

 

بل كما سبق يمكن أن يُصنع المسلم على أعين الدعوة العامة صناعة متكاملة، لكن بوقت وجهد أكبر، كما أن هذا في الواقع قليل، ويحتاج إلى عوامل نفسية وإمكانيات في شخصية المربَّى خاصة، والقليل لا حكم له.

 

فبعد هذا العرض الموجز الذي أجبنا فيه عن سؤال الموضوع المبتدأ به ضمنًا.. يبقى أن يقال إن المربِّي المعنيَّ في كلامي هو الموجّه صاحب البصيرة، الذي يدلّ على الطريق بحكم خبرته السابقة، بعد أن حنكته التجارب الشخصية والدعوية، وهو بهذا قد يكون طالب علم مغمورًا، أو داعية لا صيت له.

 

أما المربِّي المتخصص في علم التربية المتوسّع في المناهج التربويّة.. فهذا عادة لا يتيسر وجوده في الدعوة الفردية لندوره وأولويات عمله، وإنما برنامجه التربوي يخدم فيما بعد من أراد التوسّع والازدياد من دعاة المستقبل.

 

وقد كان قديمًا.. بل وإلى وقت قريب.. يتربَّى الطلبة على يد مشايخهم بعلمهم ولحظهم وسمتهم، بل بمباشرة المشايخ لأحوالهم، أما اليوم، ونحن في عصر “التعلُّم عن بُعْدٍ”، فلم يعد المتعلّمون ولا المدعوّون يطالعون أحوالَ العلماء وأخلاقهم، كما لم يعد العلماء والدعاة يعرفون شيئًا عن المتعلّمين والطلاب والمدعوّين! فحصلت الفجوة بين الداعية والمدعوّ، وجهل الاثنان حال الآخر، فلم يستفد المدعو والمتعلم من الداعية والعالم، كما لم يستطع العالم والداعية تقديم الإفادة على وجهها.

 

فهلا سددنا الفجوة ومددنا حبل التواصل ثانية لنحقق بعض البدائل عن وجود المربِّي القائد في الدعوة الفردية؟

 

والحمد لله ربّ العالمين، وصلّ اللهم وسلّم على نبيّنا محمد، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

 





Source link

أترك تعليقا

مشاركة
How to Read The Witcher Books in Order
Twelve and a Half: A Taste of the Ingredients