﴿ أتستبدلون الذي أدنى بالذي هو خير ﴾


﴿ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ

 

الخطبة الأولى

الحمد لله الذي علَّم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم، أحمَده حمدًا يليق بجلال وجهه، وعظيم سلطانه، وأُصلِّي وأُسلِّم على رسوله الأمين، وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين؛ أما بعد:

فأوصيكم – عباد الله – ونفسي بتقوى الله تعالى في السر والعلن؛ فهي خير زادٍ لمعادكم، وخير زينة لكم في دنياكم، ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ ﴾ [لقمان: 33].

عباد الله: مما قصَّه الله تعالى في كتابه الكريم عن الأمم السابقة لأخْذِ العِبَرِ والاتعاظ؛ قوله عز وجل عن بني إسرائيل: ﴿ وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ ﴾ [البقرة: 61]؛ قال ابن كثير رحمه الله: “في الآية تقريع لهم وتوبيخ على ما سألوا من هذه الأطعمة الدَّنِيَّة، مع ما هم فيه من العيش الرغيد، والطعام الهني الطيب النافع”، وقال ابن عثيمين رحمه الله: “وهذا يدل على السَّفَهِ والانحطاط، وكما يكون هذا في المحسوسات، يكون أيضًا في المعنويات، فكون الإنسان يختار الأشياء الدنيئة من الأخلاق والمعاملات وغيرها، ويترك ما هو خير، بلا شك قد وقع في خطأ”.

أيها المسلمون: إن ذُكِرَتْ هذه الآية الكريمة في حق بني إسرائيل، الذين أرادوا أن يستبدلوا بالطيب من الرزق – وهو المن والسلوى – ما هو دونه، مع كونه حلالًا، ثم ضُرِبت عليهم بسبب ذلك وغيره مما جَنَوا مما يُغضِب الله تعالى – الذلةَ والْمَسْكَنَةَ – فهي مُتعينة على كل من استبدل بالطيب مما أمر الله تعالى به، أو أباحه، ما هو دونه، وإن كان حلالًا، فكيف من استبدل بالحلال ما حرمه الله تعالى أو كان مكروهًا؟

﴿ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ ﴾ [البقرة: 61]، تُقال لمن استبدل بشُرْبِ ما أباحه الله عز وجل من المشروبات الطيبة بأصنافها وألوانها المختلفة، ومذاقاتها المتعددة، شربَ الدخان أو الشيشة، أو الْمُسْكِرات والمخدِّرات بأنواعها مما حرمه الله تعالى لخُبْثِهِ؛ فأفسدت عليه صحته وماله، وعقله ودينه.

﴿ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ ﴾ [البقرة: 61]، تُقال لمن استبدل بالبر والإحسان إلى والديه، ورعايتهما، ومصاحبتهما في الدنيا معروفًا؛ امتثالًا لأمر الله تعالى القائل: ﴿ وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ﴾ [الإسراء: 23]، وجزاء ذلك التوفيق والخير والرزق في الدنيا، والنعيم في الأخرى – العقوقَ لهما، وإدخال الهم والحزن عليهما، والإعراض عنهما، خاصةً عند كِبَرِهما وشدة حاجتهما لمزيد من البر والإحسان من الولد، فاستحق بذلك قلة التوفيق، وخيبة المسعى في الدنيا، وغضب الله تعالى وعقابه في الأخرى، إن لم يَتُبْ إلى الله تعالى، ويُصلِح ما أفسده بعقوقه.

﴿ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ ﴾ [البقرة: 61]، تُقال لمن علِم فضلَ الإقدام على الزواج، والمسارعة إليه من البنين والبنات؛ استجابةً لترغيب النبي صلى الله عليه في الزواج، والمبادرة إليه، خاصةً عند القدرة عليه، والحاجة الماسة لإعفاف النفس، خاصةً في هذا الزمن الذي تنوَّعت فيه وسائل الفتنة، ووعد الله تعالى بإعانة مُريد النكاح لإعفاف نفسه بالإعانة والغِنى؛ فقال: ﴿ وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ ﴾ [النور: 32]، لِما في الزواج من الخير العظيم في الدنيا والآخرة، والسكن والطمأنينة والاستقرار، وتحصين النفس وإعفافها، ويأبى كثيرٌ ممن هو في سن الزواج من الشباب والفتيات وأولياؤهم مخالفةَ هذا الهَدْيِ الإلهي، والترغيب النبوي، بالبقاء بلا زواج وتأخيره؛ بحجة إكمال الدراسة والوظيفة، وتأمين المستقبل كما زعموا، وما عملُهم من تأخير الزواج إلا طاعةٌ للشيطان، وإعراضٌ عن هَدْيِ الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، وفي ذلك تعريض أنفسهم للانحراف والوقوع فيما يغضب الله تعالى، والتفريط في كثير من الخير في التبكير إلى الزواج.

﴿ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ ﴾ [البقرة: 61]، تُقال لمن رزقه الله تعالى زوجةً لتكون سكنًا له، ويكون بينهما مودة ورحمة، ويقضيَ وَطَرَه منها، وتقضي وطرها منه، ويُؤجران على ذلك، إذا احتسبا الأجر؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: ((وفي بُضْعِ أحدكم صدقة، قالوا: يا رسول الله، أيأتي أحدنا شهوته ويكون له بها أجر؟ قال: نعم، أرأيتم إن وضعها في حرام، أيكون عليه وزر؟ قالوا: بلى، قال: كذلك إذا وضعها في حلال كان لها بها أجر))؛ [رواه مسلم]، ثم أعرض الزوج عن هذا الحلال، وهجر الزوجة، واستبدل بما أحله الله تعالى ما حرم من الكبائر؛ كالزنا، أو اللواط، والعياذ بالله تعالى، أو بممارسة ما يسمى بالعادة السرية، أو نكاح اليد، وقد يستغرِب المعافى من ذلك والعاقل من هذا القول، إلا أنه وللأسف الشديد يقع من قليل وشُذَّاذ من الأزواج هداهم الله، فليتَّقِ الله أولئك الأزواج في زوجاتهم، وليحذروا مَقْتَ الله وعقابه، وليبادروا للتوبة وإصلاح ما أفسدوه ما داموا في زمن المهلة، وما أجمل أن تُراجِع الزوجة حالها وحُسْنَ تبعُّلها لزوجها، وكذا تعاملها معه؛ تقريبًا للأنْفُسِ، وإدامةً لحسن العشرة، حتى لا ينفر الزوج منها، فيقع فيما حرم الله تعالى.

﴿ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ ﴾ [البقرة: 61]، تُقال لمن رزقه الله ذريةً من بنين وبنات ليقوم بالإحسان إليهم، وتربيتهم تربية صالحة، ليكونوا خيرَ من يقوم به، ويردوا الجميل له بحسن البر خاصةً عند كبره، ويدعوا له بعد موته، ويكونوا لبنة خير في مجتمعهم وأمتهم، إلا أن الأب أعرض عن ذلك، ولازم الانشغال عنهم بكثرة خروج لاستراحات أو سفر، أو غير ذلك من المشغلات عنهم بلا فائدة تعود عليه وعليهم، من نفع ديني أو دنيوي، فأهمل رعايتهم وتربيتهم وتوجيههم، ثم إنه يشكو العقوق منهم له إذا كبِروا، إلا من رحِمَ الله تعالى، وذاك ما قدمت يداه، وجناه على نفسه.

اللهم اهدِ قلوبنا، وحبِّب إلينا الإيمان، وزيِّنه في قلوبنا، وكرِّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين، أقول ما سمعتم، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة؛ فاستغفروه وتوبوا إليه، إن ربي كان غفارًا.

الخطبة الثانية

الحمد لله عدد خلقه، ورضا نفسه، وزنة عرشه، ومداد كلماته؛ أما بعد:

فصلُّوا وسلموا – عباد الله – على من أمرنا المولى بالصلاة والسلام عليه؛ فقال عز من قائل عليم: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 56]، اللهم صلِّ وسلم وبارك على نبينا محمد، صاحب الوجه الأنور، والجبين الأزهر، وارضَ اللهم عن خلفائه الراشدين، والأئمة المهديين؛ أبي بكر وعمر وعثمان وعليٍّ، وعن سائر الصحب والآل، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم التنادِ، وعنا معهم بمنك وكرمك يا أكرم الأكرمين.

اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمِّر أعداءك أعداء الدين، وانصر عبادك الموحدين، اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل هذا البلد آمنًا مطمئنًّا، سخاءً رخاء، اللهم وفِّق وليَّ أمرنا خادم الحرمين الشريفين وولي عهده لِما تحبه وترضاه من الأقوال والأعمال، ومُدَّهما بنصرك وإعانتك، وتوفيقك وتسديدك، اللهم انصر جنودنا المرابطين على حدودنا على القوم الظالمين، واحفظهم واشفِ مريضهم، وداوِ جريحهم، وتقبل ميتهم في الشهداء، وأدِمْ على هذه البلاد أمْنَها وإيمانها، وقيادتها ورخاءها، ومن أراد بها سوءًا فاشغله بنفسه، واجعل كيده في نحره، اللهم اغفر لنا ولوالدينا، وللمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، اللهم أصلح نياتنا وذرياتنا، وبلغنا فيما يرضيك آمالنا، وحرِّم على النار أجسادنا، ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقِنا عذاب النار.

عباد الله: إن الله يأمر بالعدل والإحسان، وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله يذكركم، واشكروه على نِعَمِه يزِدْكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.





Source link

أترك تعليقا

مشاركة
لا طاقة لهم بمواجهة أهل الإيمان فيعملون في الظلام
فضل الأمة المحمدية (خطبة)